فن التفكير الإيجابي

يعيش العالم اليوم في إطار من النظم التربوية التي تنادي بضرورة البحث عن أفضل السبل والطرائق للخروج من مرحلة تلقين المعلومات وحشوها في عقل المتعلّم، إلى مرحلة البحث عن طرائق أكثر فاعلية، وعن وسائل تعليمية تعتمد على تقنيات تستفيد من الثّورة العلمية والتكنولوجية، وتعمل على توظيفها في رفع مستوى التّعليم، وأن تكون مرتكزة على تنمية مهارات التفكير لدى المتعلّم سواء كان طفلاً أو شاباً.

* ما المقصود بعبارة تعلّم مهارات التفكير؟!

أي أن العملية التعليمية لا تقتصر على تلقين المعلومات وتخزينها وحفظها، وإنما تتجاوز ذلك إلى إكساب المتعلّم مهارات وتقنيات تساعده على التفكير، فلا يستسلم للآراء الجاهزة، ولا يكون هدفه الحصول على المعلومة التي تُقدّم له مباشرة داخل قالب، وإنما تهدف إلى:

(أ): تنمية التفكير الموضوعي لدى المتعلّم، فليست الآراء هي الناتج المهم في التعلّم وإنما الأفكار، ويعني ذلك إكساب المتعلّم مهارات تساعده ليكون حيادياً، فلا يتأثر بالآراء والمعتقدات التي تُقدّم له، وإنما يناقشها مع ذاته ويحلّلها ليكون لديه فكره الخاص.

(ب): الابتعاد عن الأحكام المطلقة والعمل على تنمية التفكير وتطويره بأسلوب نسبي يعمل على تدريب المتعلّم على المرونة، وبالتالي أن يكون قادراً على رؤية الأشياء والحوادث في تغيّرها وحركتها المستمرة.

(ج): تنمية مهارات الحوار والتساؤل والتفاوض والبحث عن المتناقضات والعمل على اكتشاف الصح من الغلط بأسلوب المتعلّم، وذلك من خلال إكسابه أدوات النقد والنقد الذاتي لما يتلّقاه وينتجه من أفكاره الخاصة، ويساعد ذلك على تحرره من الرأي الآخر وعدم الخضوع للمعلومة التي تصله بواسطة المطبوعة، أو التي تصل إليه من الإعلام.

(د): تنمية التفكير الناقد وذلك بتصحيح المفاهيم الراسخة لدى المتعلّم والتي تكون على الأغلب غامضة محدودة الأفق، وذلك يفسح المجال أمامه للتأمل والتدقيق، فالمعرفة لا تفتح بابها من الطرقة الأولى.

يحتاج الطفل والناشئة اليوم إلى التخرج في المدرسة بأكثر من ذاكرة جيّدة مليئة بكم كبير من المحتوى الذي لا يتناسب مع المدة الزمنية للعام الدراسي، ولكي يتمكن أطفالنا من الخروج، بقوة، من الأزمة التي مرت بها سورية، مع القدرة على تفهم الصعوبات التي مروا بها، فإنهم بحاجة إلى تدريبهم على التفكير الناقد والإبداعي ليكونوا قادرين في المستقبل على البحث عن أفضل الطرق لتقديم حلول مناسبة وعملية لما يتعلق بالقضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، أي أن يكونوا قادرين على التفكير بأنفسهم دون قيد أو شرط، كي يتمكنوا من نقل العمليات الفكرية التي تعلّموها، إلى محتويات جديدة بأساليب مبتكرة ومتطورة.

* ما هي الطرائق المناسبة لإكساب الطفل مهارات التفكير؟!!

1. تحسين عملية تنظيم الأداء الذهني: عندما يطلب من الذهن التفكير في شيء، فإنه يقوم بالبحث عن هذا الشيء بين الكلمات والصور والأفكار والحقائق وبين أشياء أخرى قام بتخزينها في ذاكرته، وهذا ما يمكن تسميته بخزانة حفظ الملفات الذهنية.

ولكي يحفظ الذهن المعارف يستخدم معايير أو خصائص للحفظ داخل صناديق صغيرة في الذاكرة، وتكون هذه الصناديق مرتبطة ومتصلة معاً، مثلاً لدينا صناديق للقصص وصناديق للأمثال الشعبية وصناديق خاصة بالألوان، وهكذا… ومن الطرائق المقترحة لتنظيم حفظ المعلومات في خزانة حفظ الملفات الذهنية:

أ. ملاحظة خصائص الأشياء أو الكائنات.

ب. ملاحظة أوجه الشبة والاختلاف.

ج. تصنيف الأشياء المتشابهة.

د. تحديد الاختلاف.

 ه. مقارنة الأشياء بعضها مع بعضها الآخر.

و. ترتيب الأشياء بالتسلسل.

ز. التعميم.

2. تنمية التفكير التحليلي: يتجاوز الذهن في هذه المرحلة التفكير بالأشياء بشكلها الكلي أو الإجمالي، والانتقال إلى التفكير بأجزائها، أي هو الانتقال من الكل إلى الجزء. ومن الطرائق المقترحة لتنمية قدرة الذهن على التحليل:

أ. تحليل العلاقات بين الأشياء الأكبر والأشياء الأصغر منها التي هي جزء منها.

ب. تحليل الأنماط بالتسلسل.

ج. التحليل البصري للبيانات.

د. تمثيل الخصائص بصرياً مثل استخدام مخططات (فن).

3. تنمية التفكير الناقد: من السهل جداً أن نطلق حكماً على شيء مفيد أو غير مفيد، جيّد أو سيّئ، منصف أو غير منصف، وهكذا… ولكن من الصعب في الكثير من الأحيان أن نحدّد لماذا حكمنا على شيء بأنه جيّد أو غير جيّد! لأننا بحاجة إلى معيار يساعد في دعم الحكم الذي أطلقناه.

يتطلب التفكير النقدي أن نكون واضحين ومنصفين وواقعين ومنطقيين في تفكيرنا، وأن نكون قادرين على شرح الأسباب التي دعتنا إلى التفكير بهذه الطريقة، وأن نكون مستعدين للاستماع إلى رأي الآخر واحترام وجهة نظره، والبحث معاً عن نقاط مشتركة لإطلاق حكم عام يفيد الكلّ.

إن تنمية مهارة التفكير النقدي تتطلب إكساب الذهن فن طرح الأسئلة، لكي يتمكن من التمييز بين ما هو حقيقي وغير حقيقي، للوصول إلى استنتاج واضح وثابت مدعم بالأدلة والبراهين.

إن المفكر الناقد الجيّد هو الّذي يفكّر في تبعات عمل ما، وفرضيات ذلك العمل، ويحدد الفكرة الأساسية لقضية أو موضوع معيّن، دون تحيّز، مع احترام جميع المعلومات والأدلة والمفاهيم المتوفرة لديه والتأكد من مصداقيتها، فالمفكر الناقد هو الشخص القادر على تحليل موقف ما أو قراءة معينة وتحديد الإيجابي من السلبي بصدق، لكي يتمكن من صياغة قرار واضح وثابت.

4. التّفكير الإبداعي: يدعو الإنسان إلى الخروج عن الأنماط المألوفة المخزنة في الذّاكرة أو في خزانة حفظ الملفات الذّهنية، وذلك يتطلب طرح أسئلة بشكل مستمر مثل:

– هل نستطيع تجميع الأشياء بعضها مع بعض؟!!

– هل نستطيع حذف بعض العمليات أو نقلها من مكان إلى آخر؟ وهل نستطيع جمع بعض الأجزاء مع بعضها الآخر؟!!

– هل نستطيع تحديد طرائق أو مواد جديدة، أو استخدامها، وهكذا.

ومن خلال طرح الأسئلة تنمو وتتطور قدرة الشخص على التخيّل، فهو يبحث ويجرب الأفكار غير المألوفة ويقف عند الفكرة فترة مناسبة، ويتعمق فيها قبل أن يحفظها ويغامر في البحث عن حلول مميزة ومختلفة.

نستنتج مما سبق أن تدريب المتعلّم على التّفكير يساعده على مواجهة المشكلات والتحديات التي قد تعترضه أثناء رحلته التّعليمية، لأنه من المعروف بأن الإدراك الأولي أو المبدئي للمشكلة لا يساعد دائماً في الوصول إلى الحل مباشرةً، فالكثير من المواقف التي يمر بها الإنسان أثناء رحلته التّعليمية يحتاج إلى إعادة النظر أكثر من مرة في الأدوات والوسائل الضرورية لمواجهتها، وبهذه الطريقة يستطيع الأشخاص تنظيم سلوكهم إلى حدٍّ كبير، بوساطة تصوّرهم للنتائج التي سيحصلون عليها، أي فتح المجال أمام المتعلّم ليقوم بنفسه بتنظيم ذاتي للمدركات.

* عندما تمر المجتمعات بأزمات، فمن الضروري أن يسعى القادة التربويون في المجتمع إلى إكساب الأطفال والناشئة مهارات التفكير، والعمل على تطوير قدراتهم على التفكير النقدي، ليكون لديهم الوعي الكافي للقضايا الاجتماعيّة والسياسية والاقتصادية، لأن ذلك سيساعدهم على أن يكونوا قادرين على التفكير بأنفسهم. 

العدد 1136 - 18/12/2024