الحكاية.. وملامح الصبح!
كانت ليلة باردة، لم نستطع فيها التحرك بعيداً عن المدفأة التي انصبّ فيها الوقود صباً. تجمعنا حول المدفأة كطوق حول عنق، فشغلنا الدفء وشغلتنا الحرب والحكاية التي لاتنتهي..
حكى كل واحد منا جانباً من الحكاية، وكان لأي سامع للتفاصيل أن يشعر بالدهشة، فكيف لحكاية تروى أن تأتي تفاصيلها ومعانيها من خمسة أشخاص دفعة واحدة، فيفهم أحداثها وتفاصيلها ومعانيها في الوقت نفسه؟!
حصل ذلك، وكان الخمسة يتخاصمون كثيراً حولها.. لأن الخمسة عاشوها، وانشغلوا بها، وعانوا منها، بل وأشعلت في قلوبهم كل المشاعر المتناقضة، التي وحّدها المصير القادم الذي خافوا منه..
كانت الأصوات تأتي من خارج الغرفة مخيفة، فدويّ الانفجارات يصمّ الآذان، وصوت الرصاص يلعلع بين لحظة وأخرى، فيبعد ويقترب ثم يختفي، ليعود فيتجدد بعد برهة من الوقت..
كل ذلك لم يقطع الحديث… كان يتواقت مع تفاصيل الحكاية، ولا يبتعد عنها.. كان كل واحد فينا ينشغل للحظة وكأنه قطة صغيرة أخافتها حركة من وراء الكرسي، لكنه سريعا ما كان يعود ليشارك في التفاصيل، وقد اعتاد تلك الانفجارات وذلك الرصاص..
الحرب ستنتهي والوطن سينجو.. قال الأول، ووافقه الثاني: لقد تعب المتحاربون.. فاحتج الثالث وردد: لاتقل هذا.. لو تعبنا نحن، لاشتدت عزيمة الطرف الثاني ليقضي على كل شيء فينا، وقال الرابع: هذا صحيح. وقلت أنا: الحرب ستنتهي لأن السوريين صمدوا!
وقلت أيضاً: لم يقبل السوريون أن يهزأ بهم التاريخ، فينحازوا إلى القسمة والفرقة والحريق الكبير الذين يضيعون فيه كما تضيع أعواد القش!
فوافقوا على كلامي..
أعادنا الأول إلى البداية، وأكمل الثاني من المكان الذي وصل إليه الثاني، وتابعت أنا التفاصيل، وكأني أنا الأول والثاني!
كان كل شيء واضحاً.. واضحاً تماماً، لذلك أعاد الرابع ماقاله الأول:
– الحرب ستنتهي، والوطن سينجو!
كانت الليلة تمر بصعوبة، والوقود في المدفأة والبيت يكاد ينضب، عندما صمتنا.. كأن الريح هدأت.. وكأن الرصاص قد نضب.. وكأن غول الحرب قد انهار ككومة رماد..
نهضت أنا باتجاه النافذة. رفعت الستارة.. كان الليل قد راح ينزاح باتجاه الغرب، وكان وهج شمس لم تظهر بعد يكشف جهة الشرق من بين الغيوم التي تناثرت فابتعد بعضها عن بعض!
لاحت من بعيد حركة مشاة واثقة.. لاحظتها أنا بادئ الأمر، ثم لاحظها أصدقائي الأربعة، فجاء صوتهم متتالياً، وكأنهم تدربوا طويلاً عليها:
– إنهم جنود.. نعم جنود..
اقترب وقعهم.. وكنا قد تجمعنا عند النافذة، وكان الدفء في الغرفة قد جعلنا نتحرك بحرية.. وفجأة: سمعنا صوتاً.. كان الصوت يأتينا من جهة الجنود، كان واضحاً.. قوياً.. واثقاً: الصبح جاء.. هيا إلى الرجاء.. هيا إلى الوطن! الصبح جاء.. هيا إلى الرجاء.. هيا إلى الوطن!
إنها أغنية، قال الأول، فرد الثاني: لم أسمعها من قبل.. وقلت أنا: تشبه نشيد أفلام الحروب الصعبة التي يرددها الجنود عند انتهاء الحرب.. وقال الخامس: لكني أعرفها..
رددها.. إنه يعرفها فعلاً..
وكان الجنود يقتربون.. وكانوا يغنونها بصوت عال.. وكان طبيعياً أن يشق الصبح جهة الشرق وهو يسمع صوت الجميع الذين كانوا يعرفونها فعلاً:
الصبح جاء.. هيا إلى الرجاء.. هيا إلى الوطن..!