إنجاز سهيل إدريس الصامت!

لم ننتبه، ونحن نعيش البرد والحرب والموت والصقيع الفكري والثقافي والجسدي، لم ننتبه إلى أن دفئاً وحيوية عالية أنشأتها الحروب القديمة التي قامت من حولنا، فاليوم ليس هناك من يحضن الثقافة ولا الفكر ولا الأصوات الصافية النقية في سورية، كما كانت تفعل بيروت في الماضي.. اليوم: السوري: لاجئ، أو مهزوم، أو متوحش، أو مهرب، أو يحتاج إلى تأشيرة للدخول إلى قلبه ((بيروت)..

يبرز الاسم من الماضي، ولمن لايعرفه، يبرز مثقفاً رغم غيابه، كريماً رغم أن يده تحت التراب.. في الماضي، احتضن ذاك المثقف العملاق جزءاً من ثقافتنا.. وقدم لنا كل ما من شأنه أن يحول الموت إلى حياة والصقيع إلى دفء!

سهيل إدريس!

الثقافة تعرفه، وإن جهله وزراء (الثقافة)..

(في مثلِ هذه الأيّام من العام 2008 قرّر صديقي الأعزّ، بابا الدكتور سهيل إدريس، أن يتخفّفَ من الحياة، تاركًا فينا، نحن عائلته الصغيرة، بعضَ أثقال الثقافة العربيّة: دارَ الآداب، ومجلةَ الآداب، وقواميسَ (المنهل) (الفرنسيّ  العربيّ، والعربيّ  الفرنسيّ، والعربيّ  العربيّ)، وإيماناً راسخاً بأهمّية الكلمة..).

هذا هو أقصر تكثيف للمعنى..

سيفاجأ كثيرون بأنه واقعي.. سهل على السادة الذين لايعرفون الدكتور سهيل إدريس..  وإذا كانت البلاغة في الإيجاز كما يقول عبد القاهر الجرجاني على ما أذكر، فإن سماح إدريس كان بليغاً في استخدام هذا التعريف مذكّراً بقامة سهيل أبيه الكبيرة دون مبالغة!

وعندما كان الكاتب الكبير حنا مينة، يرابض في معارض الكتاب يوقع رواياته الصادرة عن دار الآداب للقراء كل سنة، فإنه بذلك كان وفياً ليس للسوق الرائج لكتبه وإنما لمهارة دار الآداب وهي تقدم كنوزها، وكأنه يحييها في كل معرض دمشقي..

لاحظوا مايقوله سماح على صفحته في الفيس بوك:

كثيرون يشعرون بضرورة الكتابة عن أعزِّ مَنْ فقدوهم كلّما مرّت سنةٌ على رحيلهم. أمّا أنا فلا أشعرُ في ذكراك إّلا بالكتابة عن أعزّ ما تركتَه لنا. نعم، مشاريعُك كلها دخلتْ في طور الإنجاز يا حبيبي…

قد نتأخّر قليلًا عن الموعد الذي ضربناه لكَ ولمتابعيك، لكننا نسير قُدُمًا، وبثقةٍ لا تني تتأجّج بالشعلة التي أوقدتَها في صدورنا..

يضيف سماح، في تكثيف بليغ آخر:

مجلة الآداب، بمجلّداتها الستّين (1953-2012)، ستكون خلال شهور، في تصرّف الناس، إلكترونيًّا، ومجّانًا، لتشكّل المصدرَ الأهمَّ في دراسة الأدب العربيّ الحديث وبعضِ جوانبِ الثقافة العربيّة الحديثة. وسيترافق نشرُ أرشيفها الكامل، القابلِ للبحث المفصّل والدقيق، مع صدورها إلكترونيًّا بحلّةٍ جديدةٍ، أكثرَ شبابًا، وأكثرَ اعتناءً بالأدب، وأكثرَ ضراوةً في معركة فلسطين والتقدم العربيّ..

هذا السخاء الثقافي الجديد الذي يستكمل وصية الدكتور سهيل يكمله الحديث عن  قاموس (المنهل) العربي  الفرنسي الذي سيَصدر خلال عام،والحديث عن  دارُ الآداب التي تتجه إلى المزيد من الإنتاج..

ويختم سماح إدريس قائلاً:

ابتسمْ يا أبي: فما تركتَه لنا هو الحياةُ في أبهى صورِها، وأشدّها تحدّيًا للموت..

نحن السوريون اليوم نحتاج إلى جوهر هذه الفكرة: (تحدي الموت بالثقافة)!

شكرا سهيل إدريس.. شكرا سماح!

العدد 1136 - 18/12/2024