قراءة في مشهد اللوحة البيضاء!
أثارت الثلوج التي هطلت على بلادنا في هذا الشتاء شجوناً كثيرة في نفوس الناس، فماذا يعني البياض؟ وكيف يمكن قراءته في لوحة المشهد الكبير على كامل مساحة البلاد؟ وهل يمكن للوحة أن تتشح بالبياض، وتحمل كل هذه المعاني؟!
تعود المسألة إلى أكثر من خمسين سنة، عندما كانت الجدة تحكي لنا عن الثلج الأبيض الطاهر الهاطل فوق قريتنا الجبلية، فليس هناك مايشغلنا نحن الأطفال سوى الحكاية؟ وأجمل حكاية رسختها الجدة في ذاكرتنا هي حكاية البياض:
البياض صورة نظافة القلوب!
هذا ماقالته الجدة، وأضافت:
– نعم بياض القلوب هو نظافتها، وتتسخ القلوب بالحقد والكراهية والحسد!!
وشرحت لنا الجدة تفاصيل هذا المعنى:
كان يمكن أن يكون اللون الأسود لوناً من ألوان الثلج، لكن هذا يعني أنه لن يكون نظيفاً، وكل ماترسله السماء ينبغي أن يكون طاهراً ونظيفاً.. وكان يمكن أن يكون اللون الأسود هو لون أوراق الشجر ولون مختلف أنواع الزهر، ولكن هذا يعني أنه لن يكون معبراً عن الحياة!
وقالت الجدة أيضاً:
– الموت وحده هو اللون الأسود، لذلك أمر الأنبياء أن يكفن الموتى باللون الأبيض والأخضر، لأن رداء يوم القيامة يفترض أن يكون نظيفاً أبيض!
وتاهت الجدة في فلسفتها، وهي تقرأ لوحة البياض الثلجي، وشرقت وغربت، وفي كل اتجاهاتها كان تحمل المعنى الجوهري لفكرتها:
– كيف ستواجه ربك برداء أسود؟!
وتضيف:
– وحده الشهيد يأتي بردائه نفسه حتى لوكان وسخاً.. يأتي بدمه وجراحه وكبريائه، فتسأله الملائكة: أين رداؤك الأبيض؟ فيشير الشهيد إلى قلبه: هنا في قلبي. لايريد الأعداء أن يخرج بياض قلبي فقتلوني!
فتغني الملائكة له، وتنقله نظيفاً طاهراً يرتدي ثياب قلبه الأبيض!
الثلج يهطل..
وحكايا الجدة تنبض في داخلي كأغنية أزلية، وأسمع صوتاً:
– هيه.. هيه.. أيها الشارد بعيداً في لوحة الثلج؟! ما الذي يشغلك عنا؟!
ذاك صوت الطفل لجدته، وهو لايدري أنه سافر في آلة الزمن عشرات السنين ليتعلم قراءة لوحة البياض الذي غطى الله به أرضنا..
أرسل الله ثوباً أبيض ليعيد إلينا حكاية الجدة..
كونوا أنقياء..
مثل قلوب الشهداء.. وتذكروا أن الدفء الذي تبحثون عنه موجود في القلوب تماماً مثلما هي المحبة!