كيف أزهرت الأشجار.. وتلونت الشرفات بالورد؟!

لم أعد أخرج إلى الرياضة الصباحية، شغلتني الحياة عن الحياة، مرت ثلاث سنوات على هذه الواقعة، وكان قراري مفاجئاً، فقد اشتدت الحرب، وبدأ الناس يوقفون مشاريعهم، وكأن الحياة توشك أن تتجمد بشكل نهائي.

كان مشواري الرياضي اليومي يبدأ من البيت، بمشي سريع الخطوات، لأطوف الجهة الشرقية من الضاحية، بزواريبها وحاراتها وشوارعها العريضة الحديثة، ثم أعود إلى البيت، وقد دبت الحركة وشرع الناس يخرجون من بيوتهم إلى أعمالهم.

كانت تشغلني في هذا المشوار الرياضي أفكار وهواجس كثيرة، من بينها أن كل ما أراه أمامي من حدائق صغيرة وشتول للياسمين والورد الجوري والشمشير ستموت، لأن الحرب ستجعل الناس ينأون عن هذا الترف الزائد عن اللزوم في وقت الحرب، فالحرب ستهزم إنسانيتهم ويدق القلق في قلب حياتهم، وكنت أرقب البيوت التي وضعت أساساتها وأبتسم، فمن سيبني هذه البيوت، ومن سيغامر في كل مامعه ليبني بيتاً لابد للحرب أن تأخذ حصة منه، أما الحركة الضعيفة في تلك الأمكنة فكانت تزيد من تشاؤمي إلى الدرجة التي كنت أحس أنها منطقة مهجورة ستجعل الحرب منها واحدة من حكايات أمريكا اللاتينية التي كتبها خوان رولفو!

كانت هذه الهواجس اليائسة تشغل الوقت الذي يفصل بين خروجي من البيت وعودتي إليه، والغريب أنها كانت تتكرر كل يوم وتزداد إلى أن توقفت عن عادة الرياضة الصباحية تلك!

قبل أيام.. راجعت الطبيب، فقد رحت أشعر بترهل في جسدي وتعب دائم وبعض حالات الصداع النادرة، فطلب منّي زيادة الحركة والشروع في رياضة يومية تعيد الحيوية لجسدي الذي رهن نفسه ساعات طويلة للحاسوب ومتابعة ماتنشره وسائل التواصل الاجتماعي والأخبار في الشبكة العنكبوتية.. وسريعاً نفذت نصائح الطبيب:

استيقظت صباحاً وأخرجت ملابس الرياضة، القميص الأبيض، وبنطالاً واسعاً، وحذاء طرياً، وفتحت الباب دون أن أفكر في أي الاتجاهات ستكون رياضتي الجديدة، فإذا أنا اتجه إلى حيث كانت رحلة الصباح قبل نحو ثلاثة أعوام من اليوم، فما الذي رأيته؟!

طارت هواجسي القديمة كلها.. فالحرب اشتدت، لكن الحياة والناس كانوا أقوى منها بمرات كثيرة.. اختفت أساسات الأبنية الجديدة التي كنت أخاف أن تبقى خرائب خاوية، وحلت محلها بيوت جميلة، ارتفع بعضها خمسة طوابق، وتزينت جدران بعضها بحجارة بيضاء منحوتة، ورسمت على قناطر نوافذها، الزنبقة السورية الشهيرة التي تشبه ربطة العنق.. أما الشتول فأصبحت أشجاراً وارفة، وأزهرت عرائش الياسمين، وتلونت بعض الشرفات بألوان الورد الجوري، وفاح العطر من كل مكان، واستيقظت العصافير في صخب وجلبة وفرح، رغم أن أصوات الحرب التي لم تنته بعد مازالت تترامى إلى مسامعها من جهتين على الأقل.

العدد 1136 - 18/12/2024