إذاعة دمشق.. ..التقاعد.. (بروفة جينرال)!
الإذاعة، ليست مجرد مكان، وأنا أقصد هنا: إذاعة دمشق.
هذه الإذاعة، التي يسمعها كل الناس.. قالت لي خالتي في قريتنا الجميلة، إنها تسمعها كل صباح على راديو الترانزستور منذ ثلاثين عاماً.. وهي التي قال عنها أحد الوزراء العرب وأنا أحاوره ذات يوم، إنه يسمعها وهو يشرب قهوة الصباح..
هذه الإذاعة ليست مكاناً للبث، (لايمكن أن تكون مجرد مكان)، لأنها في حقيقة الأمر تنبض بذاكرة غنية للوطن وتاريخ واسع للفن والثقافة والسياسة، وحتى الخبر!
ومن يدقق في تاريخها، يكتشف أن أسماء كبيرة ومهمة في السياسة والدبلوماسية والإعلام والأدب خرجت منها، وكلهم يقولون عنها: الإذاعة تاريخ لاينسى!
أكتب هذا لأنني أحسست بقرب الابتعاد عنها بعد أكثر من خمسة وثلاثين عاماً من العمل فيها وفي أروقتها، فقد حان وقت التقاعد، ولأن هذا يعني راحتي من عمل طويل، فهذا يعني أن القدوم إليها سيكون نادراً..
قلت في نفسي: (سأرتاح فعلاً، ولكن كيف أستطيع الابتعاد عنها؟!).
ظل هذا الهاجس يشغلني منذ بداية السنة الأخيرة التي سيصدر فيها قرار إحالتي إلى التقاعد، ولا أخفيكم، فقد شرعت في ترتيب الأمور على هذا الأساس. فكرت بكتابة الرواية التي أخطط لها منذ سنوات، وخطر لي أن أسافر إلى القرية لأعيش في الريف، كما يفعل الأمريكيون، كذلك خطر لي أن أجوب العالم، كما يفعل الأوربيون، كل ذلك فكرت فيه، ولم أفكر أبداً بما فعله نجيب محفوظ عندما جعل رحلته يومية إلى المقهى، حتى بعد أن طعنه الإرهابي في الطريق إلى مقهى ريش، حتى حان وقت موته!
في الآونة الأخيرة شغلتني فكرة المقهى، فإذا كانت السياحة في أنحاء العالم قد أقفلت لأن الربيع العربي جعلنا لاجئين على شطآن أوربا وجعل سمعتنا إرهابيين نقطع الرؤوس ونقتل كما حدث في (بات كلان) في (بولفار فولتير) في باريس، فإن العالم لن يصدق أن ثمة سائحاً عربياً خرج في رحلة سياحية بعد التقاعد..
فكرة المقهى هي الأقرب إلي لأن الحرب على السوريين أبعدتني حتى عن الريف الذي أحبه.. ولذلك قررت إجراء (بروفة) أولى قبل الابتعاد عن الإذاعة..
خرجت في الصباح الباكر إلى المقهى.. قلت بيني وبين نفسي: الآن أنا متقاعد.. وضحكت: مثل (البروفة)، ولابد أن المقهى يحل المشكلة.. دخلت إلى المقهى.. جلست على كرسي.. لم يكن العدد كبيراً من حولي.. كان هناك مجموعة رجال طاعنين في السن ينظرون في خواء المكان.. رحت ألقي التحية عليهم.. فردّوا بأحسن منها، وعادوا إلى شرودهم..
راح الوقت يمر.. ثم سيطر عليّ شرود لا أعرف إلى أين أخذني، ثم اكتشفت أنني صرت أحدّق في خواء المكان..
يا الله! هل هذا حلّ فعلاً؟!
أخرجت القلم من جيبي، وشرعت في كتابة هذه الزاوية، لأعود اليوم فأقدمها للإذاعة!