البحث عن الدفء..حكاية المدفأة الأسطوانية!
في كل شتاء، وعندما ينفد المازوت في بيت كل واحد فينا، كنا نخرج أنا ومجموعة فتيان من حارتنا، إلى الشارع ننتظر مرور طنبر المازوت الشهير الذي كان يستعمل مزماراً خاصاً ينتهي بنفاخة تشبه الطابة، ما إن يضغط هواءها حتى تصدر صوتاً كان يعني بالنسبة لنا كلمة واحدة: المازوت!
كنا ننتظر البائع وبيد كل منا تنكة واحدة أو تنكتين، وكان سعر التنكة بحدود ليرتين سوريتين، وما إن يقف البائع ليبيعنا حتى نضع التنكات تباعاً خلف خزان (الطنبر) وننتظر بلهفة نزوله عن الحصان لملء المازوت، فوصول المازوت كفيل بدبّ الدفء في الجسد..في غرفتنا الوحيدة التي نجلس فيها في البيت، كانت المدفأة صغيرة أسطوانية الشكل، إلى جانبها طابة ملونة تملأ بالمازوت، وهذا النوع مازال موجوداً في الأسواق إلى اليوم، ولأن لهذه المدفأة كثيراً من المعاني في الاستخدام والتصميم سأحكي لكم قصتها وسر الدفء فيها..
لقد أثارتني مدفأة غرفة الصالون في بيت قريب منا. كانت مربعة الشكل لها أربعة جدران مزينة، ولها حافة أمامية تشبه حافة مدفأة الحطب، وكان كل شيء في هذه المدفأة متوازياً مكعباً أو مستطيلاً إلا طابتها، فكانت أسطوانية الشكل تمتد على عرض المدفأة!
سألتُ أمي: لماذا لا تشتري لنا مدفأة جديدة مثل تلك الموجودة عند الجيران في غرفة الصالون؟….عرفت أمي أنني أقصد المدفأة المربعة الشكل، فلم تخبرني بأن الفارق بين المدفأتين في التكلفة التي لانملكها، فسعر الثانية يساوي أربعة أضعاف المدفأة الموجودة في البيت، لذلك لم يكن أمام أمي إلا إخباري بالقصة. فقالت لي:
– الذي اخترع المدفأة المربعة. رجل غشيم، حتى أنه ندم عندما أخذ واحدة منها إلى بيته، فأنبّته زوحته واحتجّ عليه أطفاله!
قلت باستغراب:
– لماذا؟ المدفأة المربعة أجمل وأكبر!
هزت أمي رأسها، وقالت:
– لاتكن لجوجاً. انتظر حتى تسمع القصة إلى آخرها..
وتابعت سرد القصة، وأنا أصغي باهتمام:
– عندما يعيش في البيت سبعة أفراد مع أمهم وأبيهم، فلابد أن تضيق عليهم غرفة جلوسهم، والمدفأة المدورة أعدت لهذه الغاية، إذ يجلس الجميع حولها، وبإمكانهم مد اليدين نحوها لسحب الدفء منها بالتساوي، وعندما يجوعون فلا يجدون سوى الخبز، فإنهم يلصقون الخبز على جسدها المدور، فيلصق وتنضج أطراف الرغيف بالتساوي، ولكي لاتذهب الحرارة التي تصعد من أعلاها إلى فضاء الغرفة مجاناً، فإن باستطاعة الأمهات أن يطبخن عليها كل ما يرغبن دون أن يضيع أي شيء منها..
ونهضت أمي، وأحضرت إبريق شاي صغير وضعته فوق المدفأة، ثم أحضرت رغيفين وألصقتهما على جسد المدفأة، وعندما نضجا أعطتني واحداً منهما وقالت:
– انتظر فخلال لحظات ستشرب شاياً طيباً مع الخبز!
مضى زمن طويل. تغيرت فيه أشكال المدافئ.. صار سعر المدفأة الواحدة أغلى من سعر بيت صغير من بيوت أيام زمان.. وصار سعر ليتر المازوت يساوي نصف راتب أبي الشهري في ذلك الوقت..
أما أنا، فمازلت أبحث عن دفء تلك المدفأة المدورة، وطعم الخبز المحمص الذي قدمته لي أمي، ثم أرقب باهتمام أن تأتي من السماء وبيدها كاسة الشاي التي قدمتها لي في ذلك الشتاء!