أن تكون صحفياً:هل يمكن أن تموت!؟

عدت من بيروت مطلع عام ،1981 كان الصراع الدموي في سورية قد أخذ مجراه على نحو لم يتوقعه السوريون، ولم ترصده الأحزاب والقوى السياسية التي كانت تعمل في الشارع السياسي السوري، فالسيارات المفخخة ضربت أكثر من منطقة في سورية، ومجزرة مدرسة المدفعية كانت قد فشلت في إشعال حرب أهلية في سورية، وكذلك فشلت الاغتيالات المتتالية في انهيار الاستقرار السوري..

عدت من بيروت إلى سورية، لشعور خاص أن علي أن أكون مع أمي وأخوتي، فمنهم من كان في المدرسة أو كان يؤدي الخدمة الإلزامية، وكنا نسكن في بيت واحد يطل على بساتين العدوي الجميلة من جهة الشرق..

كانت بيروت أكاديمية حياة وصحافة وسياسة ذات فائدة أكبر من الكتب التي قرأتها في دراسة الصحافة، رغم أن قامات كبيرة علمتني مبادئها، فعلى الأقل كنت أقرأ يومياً في بيروت عدداً كبيراً من الصحف اليومية والنشرات الممنوعة التي تصدرها أحزاب وقوى المعارضة العربية بكل اتجاهاتها، فضلاً عما تصدره المقاومة الفلسطينية التي كنت أعمل في صحافتها!

وكانت الكتب الحديثة تأسرني، وأنا أذهب لأشتريها من مكتبة الجامعة العربية في الفاكهاني، وكان ذلك يستغرق كل شيء في حياتي المهنية التي بدأت منذ فترة قصيرة.

كانت بيروت أكاديمية حياة وصحافة وسياسة، لكن دمشق كانت تشبه مرجلاً يغلي. عُيّنت في التلفزيون ونُدبت إلى إذاعة دمشق، فاجتمع بي المذيع السوري محمد الحوراني، وكان مديراً للبرامج السياسية في إذاعة دمشق، وكانت من أهم وسائل الإعلام العربية..

سريعاً نشأ تجاوب بيني وبينه، وخاصة بعد أن عرف أنني كنت في بيروت. طلب مني الانخراط في مهمات العمل الإعلامي بعد تقديم طلب انتساب حزبي، فقلت له:

– لم أتعرف جيداً على العمل الإذاعي وآليات العمل.. ما زلت في أول الطريق.

وطلبت منه تأجيل الموضوع قائلاً:

– اترك المسألة للزمن القادم!

ضحك محمد حوراني، وشدد على أن لا أتردد في قراري، وبعد أسبوع من هذا الكلام، اغتيل في أحد شوارع مخيم اليرموك.. قاتل إلى أن نفدت ذخيرة مسدسه، وهو يصد هجوماً عليه من مسلحين مجهولين من الطليعة المقاتلة_ كما قيل وقتذاك، هاجموه وهو يخرج من بيته باتجاه عمله في إذاعة دمشق..

كان اغتيال محمد الحوراني أخطر ما واجهني في عملي في سورية.. لقد اغتيل أول شخص تودّد إلي في حياتي المهنية الرسمية داخل بلدي..

يا ألله.. لماذا حصل ذلك؟!

كان محمد حوراني شجاعاً، واثقاً بنفسه، يشق طريقه في ظرف صعب دون تردد، وكنت أشعر أنني أنتمي إلى هذا النوع، فأصبت بنوع من الكآبة..

عدت إلى الكتب التي معي، وإلى مشروع (توثيق الأحزاب)، وهو مشروع شغلني في حلقة بحث سابقة مع صحفي شاب مثلي هو: (عز الدين عز الدين)، وشرعت أعمل فيه بدأب، وكان مشروعاً يأخذ بيد صاحبه تلقائياً إلى الهلاك..

في مجموعة الوثائق التي جمعتها لمتابعة هذا البحث، كان ثمة قصاصات للصحفي ميشال النمري كتبها في صحيفة (السفير)، كانت تشبه فكرتي، وكنت أخبرته في بيروت برغبتي في هذا البحث، فسألت نفسي:

– هل سرق الفكرة وشرع في نشرها؟!

ضحكت من نفسي فيما بعد من هذا الظن، فالصحافة تأكل كل الأفكار..

وكما تعلمون، تعرّض جسد ميشال النمري لأربعين طلقة في شوارع قبرص فيما بعد، لأنه اشتغل عليها عربياً؟

فأيّ عمل هذا الذي بدأت فيه حياتي؟!

العدد 1140 - 22/01/2025