هو الوطن

لشد ما يشبه شاربا هذا الجهم شاربي (الأطرش)، ولكن يشوبهما بعض انخفاض في طرفيهما.

ربع القامة ذاك الذي خلفه يتلفع عقالاً وشملة سوداء، لكأنه (العلي) جداً ووقاراً، غيرأن عينيه تبدوان أكثر حزناً.

أما ذلك الطويل الذي يرتدي بزة عسكرية، فأقرب مايكون من حيث هيبته وطوله ل (هنانو). مع انحناء بسيط طرأ على امتشاق قامته.

هكذا كان (سلام) يستعرض الطابور الذي يقف وسطه (مشبِّهاً كل واحد فيه، بإحدى الشخصيات التاريخية التي اختزنتها ذاكرته)، ريثما يحين دوره في الحصول على (غالون) مازوت، يسدّ به جوع المدفأة المركونة في زاوية بيته، ويطرد البرد المعشش في عظم أطفاله. وبدفعة مباشرة من قبل أحدهم لسلام على غالون مازوته، أردته ذليلاً في (نقعة) مجاورة طرزته بوحل الطين ووحل القهر. وأخرى غير مباشرة من قبل (الأزمة الخانقة التي ما انفكت منذ عشرين شهراً ونيف، تعبث بدماء السوريين ومصائرهم. تحول سلام من التمعن في تقاسيم الأشخاص، إلى التمعن في تقاسيم الوطن. وراح يتساءل: هل الأرض التي وجد الإنسان نفسه يدبّ عليها، والسماء التي وعى حاله يسعى تحتها، هما وطنه؟ الوطن الذي يمكن استبداله بأرض أخصب وسماء أرحب؟

ثم ما الوطن إذا لم يقِ المواطن من حرّ وقرّ، يؤمنه من جوع وعطش.. ويحميه من خطر؟

هل الوطن هو اسم الدولة المطبوع على بطاقتنا الشخصية أو على جواز سفرنا، ونستطيع شطبه أو تغييره  بجرة قلم  إذا أردنا؟

هل الوطن هو البلد الذي يؤمن لنا حاجاتنا المادية والمعنوية ويوفر لنا العمل والأمل؟

وبالتالي مطلق دولة تتوافر فيها ما سبق من صفات، تكون وطننا؟

أم لا يكون وطناً، سوى ذلك المكان، حيث سقط رأسنا وعلت صرختنا وتفتحت عينانا، وتوطّن ناسنا وأهلنا وأحبتنا؟ ومع ذكر الأحبة، حضرت (أجفان) حبيبة سلام. فإذا بها تسرق منه جلّ اهتمامه.

تملأ عليه وقته..

وتشخصن له الوطن.

كثيرة هي صفات التناظر، أوجه التشابه، وعوامل التشارك، فيما بين الوطن والحبيب. حتى ليبدوان توءمين. فكلاهما نتعلق، كلاهما يهواه الفؤاد وتتوق له الروح.

وكلاهما نهبه ودّنا وإخلاصنا وعشقنا، من غير أن نسأله مقابلاً.

قد يكون وطننا خصباً غنياً أخضر، فنحبه..

وقد يكون قاحلاً فقيراً ذا حجارة سوداء فنحبه أيضاً. ألم يقل العرب: لو لم يكن حب الوطن قتالاً، لكانت بلاد السوء خراباً!

قد يكون مَنْ نحبه، طويلاً ممتلئاً أشقر، فنحبه. وقد يكون قصيراً نحيفاً أسمر، فنحبه أيضاً. أو لم يقل الأولون: حب حبيبك ولو كان عبداً أسود!

هو الوطن، لون عينينا، صورة بصمتنا، وهويتنا.. ربما لا نعرف متى؟ كيف؟ ولمَ؟ لكننا على يقين راسخ بأننا نعشقه!

العدد 1136 - 18/12/2024