حلم.. ورصاص

لم يكن يدرك حينَ اخترق ذلك الحاجزَ، أن الصباحات في بلده لا تتشابه.. وأن ذاك الصباح الباكي.. لم يشبه أبداً هذا الصباح اللازوردي المذيَّل بكل ألوان قوس قزح.. كان صوته لم يَزَلْ مخنوقاً من بقايا هتافٍ عتيق، حينما صادروا منه.. عنوانه.. هويته.. ملامح وجهه.. ورسموا على جبينه عبارة (نازح)، فلجأ إلى غابةٍ مسيجة بألفِ ذاكرةٍ وحلم حزين،.. مهرولاً بحواسه كلها لالتقاط أوكسجين مستقبله.. لقد أصبح لديه حلم.. ضحك حينذاك.

لم يكُنْ لهُ غير احتمالٍ وحيد كي يلملم شتاته.. ويصنع حلمه.. لم يعرفْ كيفَ يغزل الشوق إلى لحظةِ حضورِها، تعلّمَ كيف يحرُسَ أحلامه منها كي لا تختفي مرة أخرى مثلما فعلت قبلاً.

وهاهي ذي تعود تحمل نوارسها متحدية كل قُبْح هذا العالم.. لتخبره: أريد من يخطفني… لا من يحرسني.

هو: لكنني حارسك الأزلي.. منذ أن وطئ حلمنا أول غيمة.. ومنذ ابتلينا بالحنين.. الذي اضطررنا دائماً لجره وراءنا.

هي: أريدك أن تخطفني من مساءاتي اليابسة.. صفصافة تتكئ وحيدة على مرمى فوهة بارود.. في مدينة لا تشبه سماؤها سماوات المدن الأخرى… تخطفني من ذاكرة مثقلة مغيبة.. لا تحتفظ إلا بخسائرنا البهلوانية.. لا تحمل في كربونات ذاكرتها إلا مشاهد الهروب من فجيعتك بوطنك إلى فجيعة وطنك بك.

هو: أنا جزء من هذا المكان.. من تلك المساءات فقط لأني أشبهها.. لأني حلمت يوماً بشبر أرض بحجم رغيف خبز أمي.. حلمت بعصافير تبني أعشاشها على تلك السنديانة التي عمّرت وعمّرت.. قبالة بيتنا (المقفى) بين حاجزين.. حلمت بمدينة متمردة.. ثائرة.. مغناجة.. لا تنام حتى تنصت لكل حكايا عشاقها وجنونهم.

هي: نحضّر حياتنا لاستقبال كلّ شيء، حتى الموت نتعلم كيف نبتلعه جرعة جرعة، ولكن نحترس دائماً لتفادي خيبات البطولة الدونكيشوتية.. وخيبات الحب والحلم أيضاً.

هو: إذاً.. كان ينبغي عليّ انتشال دقائق ربما من بين أكوامِ الحطام الحيّ.. وهو يمر فوقنا.. وأمامنا.. وتحتنا.. وخلفنا.. وأنقش على حجر مرّ فوقي ما قمت بحراسته في سنواتي الأربعين، (أحرس ظلاً لئلا تخدشني شموس بلادي، وأتغنى بجمال شمس لنهار لا ينتهي.. وأبني بيتاً لأحلامٍ لم يخدشها حياء بلادي بعد..)..

هي: هل سمعت يوماً بعنفوان الخوف.. هذا ما يملؤني الآن..؟!

هو: إذاً.. لنبقِ هذا الخوف مؤجلاً.. وليهمس شوقنا المغلف كشرنقة، وحبنا المعلق في الهواء بين فوهات المدافع ونداءات الذين غاب صوتهم عنا وسط ضجيج الرصاصات والقنابل.

هي: كم أتوق للتحليق بك إلى ما لانهاية.. سأفرد جناحيَّ للشمس.. فما زال هناك متسع مكان لحلم..

هو: كم أتوق للغوص بين مساماتك إلى ما لانهاية.. لأخطف صباحاتك.. مثل حُلمٍ يوقظني كل ليلة.. لأكتشف تضاريسك.. أنثاي أنت التي أعيش تفاصيلها بدقّة وأتجرّعها مع كل رشفة من فنجان قهوتي كلما استيقظتُ على وقع طبول حربنا الثكلى.

هي: إذاً.. ما زال فينا ما يبحث عن لجة حلم.. إنه هوَ من قبضَ علينا معاً، وأخذني من كلّ شيءٍ إليك، لأُحِيكَ بنفسجةً لك.. سأفترشها بينَ راحتيكَ وأفرّ هاربةً إلى حقولي..!

هو: أريد أن أبقى في ظلك حتى في حالات الخيبة.. فلا تنأَيْ بعيداً عن أغنياتي.

هي: وللحقول أغنيات أيضاً.

هو: ألم تعلمي؟ فقد أصابها اليباس… منذ لفَّتْ وشاحها السنونو وارتحلت.

هي: إذاً.. أرهقني الانتظار.

 

 

(*) علاء ورنا.. شابان نازحان.. في مركز لإيواء النازحين بدمشق.. (الذي كان لي شرف العمل به كمتطوعة) هربا من الموت.. مستعجلين الحياة.. ليتزوجا حديثاً في ذاك المركز.

العدد 1140 - 22/01/2025