«صوبيا..»

كان أبي، بعد أول  زخة مطر تشرينية، يستقبل الشتاء بمهرجانات عديدة، فيشمر عن ساعديه ويلوي عنق البرد و(بوري الصوبيا) ليدخله في ثقب المدخنة المحفورة في جدار غرفة الشتاء الطينية.

 من هذا اليوم فصاعداً ستكون للغرفة حكاياتها الشتائية في غمرة البرد، وسوف توزع هذه الغرفة من الآن فصاعداً الدفء على قلوبنا وتحرسنا من الخوف من ليالي الشتاء الطويلة.

 كنا نلتف حوله مبهورين بالضيف السنوي الدافئ (الصوبيا)، والذي يدرك حكاياتنا الصغيرة ووجع البرد، ويعرف كم مرة أكلنا البصل والبطاطا المشوية في ليالي الشتاء الباردة، وهو الوحيد الذي يعرف تخاريف الجدة ويكشف انبهارنا من الحكايات الطويلة  والخيول والسيوف التي كان يحارب بها أجدادنا المهلهل وعنترة العبسي.

 كان أبي ينتهز الفرصة السنوية ليتغزل بأمي بطريقته الملغزة مشيراً إلى المدفأة: انظروا إنها قوية وجميلة ودافئة مثل أمكم، فقد زارتنا وأمكم هذا البيت في يوم واحد، وهي صامدة مثلها وتحملت وجعنا وبردنا في ليالي الشتاء الثلاثين التي مرت.

وبعد أن ينجز مهرجان تركيب المدفأة يضع إبريق الشاي على قمتها، ويلف لفافة التبغ الحموي ويقول مقولته الشهيرة : لم يعد كلب الشتاء ينبح.

هذه ليست ذاكرة، بل هي أسئلة  حياتية  تسألها أغلب العائلات التي تستقبل الشتاء هذا الموسم والذي لايشبه أي شتاء مضى بكل تفاصيله المؤلمة.

 وهي ليست ذاكرة بقدر ماهي آلام وأحزان تلف العائلات وتوقعها بين سندان البرد ومتطلبات الشتاء الكثيرة.

فحين قال ماركيز: أعطوني بيتاً دافئاً ومعدة ممتلئة وامرأة دافئة أُعطكم ملايين الروايات، كان يعرف أن البرد له مفاعيل الجوع في حياتنا اليومية.

في هذا الشتاء البارد والمرير كيف للكثير من الأسر والبيوت أن تلجم نباح كلب الشتاء الذي لايهدأ، وكم سوف تفتقد فاكهته بين تهجير ونزوح؟ وكم سوف تكتب الذاكرة بعد حين عن شتاء لايشبه الشتاءات التي مرت؟

العدد 1140 - 22/01/2025