عنف المدارس أشدُّ خطراً على المجتمع والمستقبل
يتسم الجنس البشري بسمات مختلفة ومتناقضة، فبقدر ما يمتلك من الرأفة والحب والعطف، يحمل من القسوة والكراهية والعنف ورفض الآخر.
العنف، هذه السمة أو الحالة، سمّوها كما تشاؤون، هي باعتقادي من خصال الجنس البشري، إلاّ أن التربية وطرق التعامل هما المسؤولان عن إظهارها أو العكس، فالأهل الذين يعتمدون أسلوباً مليئاً بالحب والحنان في تربية أبنائهم يستطيعون أن يضعوا العنف في مكانٍ مجهولٍ إلى حدٍ ما في نفوس أبنائهم، بينما نجد العكس واضحاً ملموساً عند الأبناء الذين نشؤوا عند أهل يعتمدون التعنيف والإهانة والضرب أسلوباً وحيداً وأساسياً.
والعنف له أوجه متعددة، منه العنف الجسدي المتمثل بالضرب بأشكاله المتنوعة، الذي له من الآثار النفسية الكثير الكثير، وهي حتماً ستظهر مهما حاول الشخص إخفاءها. أيضاً، هناك العنف اللفظي الذي يحمل في طياته قسوةً وقهراً كبيرين ربما يفوقا عند بعض البشر ما يتركه العنف الجسدي. وهنا أودّ الاقتصار على هذين الشكلين من العنف وما يخلفانه في النفوس، سواء بين أفراد الأسرة، أو في الإطار الاجتماعي العام، وتحديداً في المدارس التي تشكل إحدى أهم حلقات التواصل الاجتماعي.
فقبل الأحداث الدامية التي تعصف بالبلاد والتي لم يشهد التاريخ البشري مثيلاً لها في تنوع أشكال العنف وتعدده، كان التعنيفان اللفظي والجسدي موجودّين في قطاع التعليم، سواء من قبل الكادر التدريسي تجاه التلاميذ أو من قبل الأطفال بعضهم تجاه البعض الآخر، ونظراً لكثرة حالات العنف في المدارس وتماشياً مع ركب الحضارة في دول العالم الأول التي امتنعت عن الضرب في المدارس، صدر قرار وزاري قضى بمنع الضرب في المدارس، وقد رحبنا حينذاك بتلك الخطوة، وأيّدناها باعتبارها تقوم على تفعيل التعامل الإنساني بين الكادر التدريسي والأطفال، ولكن طرق التطبيق لم تعطِ النتائج المرجوّة. إلاّ أن ما أود الحديث عنه، هو حجم العنف الهائل الذي نقابله في المدارس لاسيما السنوات الأخيرة من الحرب، إذ يهولك حجم الكراهية والحقد اللذين تجذّرا في نفوس الأطفال فيما بينهم، فما إن يتشاجر طفلان حتى تقف مشاهداً لأحد أفلام العنف الهوليودية، وتبدأ الأدوات رويداً رويداً بالظهور إلى ساحة المعركة، من الضرب المبرح بالأيدي والأرجل، إلى محاولات الخنق، وبعد قليل يبدأ استخدام أدوات أخرى لا تنتهي بالسكاكين.. والقوي سواء جسدياً أو بمساعدة أدواته تكون له حصة الفوز بالمبارزة التي لا تشبه إلا ما كان يقوم به الرومان قديماً حينما كانوا يتسابقون لمشاهدة مباراة بين رجلين، يجب على أحدهما أن يأتي على حياة خصمه كلياً ليُعلن فوزه فرحاً منتشياً.
وأظنكم تتساءلون: أين الكادر التدريسي من كل ما يجري؟
إن كان من بين الكادر من يمتلك مقومات شخصية وجسدية تخوّله الدخول في عراك كهذا، فإنه يدخل ظنّاً منه أنه سيتمكن من إنهائه، لكن لا تتساءلوا كيف ستكون حالته في نهاية المطاف، فحكماً سيطوله الكثير مما يجري، هذا إن لم تنقلب عليه القصة فيصبح هو الخصم والحكم! ودائماً في كل مدرسة هناك شخص ما يؤدي هذا الدور، ليُصبح الفزاعة التي ما إن يمر خيالها حتى يهرب الأطفال فزعاً كما الطيور في الحقل…
ليغدو المطلوب الأوحد من قبل جميع زملائه غير القادرين على ضبط الطلاب في ظل انعدام قوانين ناظمة صحيحة، مترافقة مع انعدام مسؤولية الإدارات في غالب الأحيان، هذا إن لم يتّبع كل مدرس وسائل التعنيف الخاصة به، ولكم أن تتخيلوا وضع مدارسنا اليوم. فالكادر التدريسي المُعَنَّف بدوره من السلطة الأعلى المتمثلة بالإدارة والتوجيه وصولاً إلى أعلى سلطة في وزارة التربية، والذي يُلاقي أيضاً من العنف ألواناً وأشكالاً مخيفة خارج إطار المدارس، إما في بيته أو في الشارع أو من ناحية الوضع المعاشي القاسي، تجده بلحظةٍ ما لا يتمكّن من ضبط نفسه ويقوم بإخراج كل ما في جعبته هو أيضاً من القهر على الأطفال الذين يسيطر عليهم، ذلك لأنه يدرك تماماً أنه غير قادر لعدة أسباب من مواجهة العنف الواقع عليه.
هؤلاء الأطفال تلقّوا من التعنيف الكثير، فمنهم هُجّر من بيته فصار بلا مأوى، ومنهم من شاهد بأم عينيه مقتل أبيه أو أمه فغاب عنه سنده وملجأ الأمان، ومنهم من صار ينتهج العنف ويتلذذ به انتقاماً من كل ظروفه، حتى إن فكّر باللعب فإن لعبته الوحيدة هي الحرب وقتال الشوارع والسعي للظفر بالانتصار على الخصم، وهنا لم نعد نلحظ وجود شريك بل إن الخصم والعدو هو الموجود سلفاً.
في خضم كل هذه الصورة القاتمة، هل بوسعنا أن نسأل: من المسؤول الأول عن كل هذا العنف المستشري والذي بات أهم صفة تميز الأجيال الحالية، هذه الأجيال التي حُرمت من أي معنى للإنسانية؟ وصادف أن وجد لدى البعض شيءٌ من العطف أو المحبة فحكماً يوصف بأنه أهبل وساذج…ولنا أن نتخيل مجتمعنا بعد سنوات- إن انتهت الحرب اليوم- مجتمعاً قائماً على كل أشكال العنف ورفض الآخر، والانتقام لمن ذهبوا ضحية قتالٍ لم يكونوا طرفاً فيه، أو لحياةٍ كانت من المفترض أن تحمل حلماً بمستقبلٍ أفضل.