الهوية بين الماهية والصيرورة
لعل سؤال الهوية من أهم الأسئلة المصيرية، بالنسبة للأفراد وللجماعات الإثنية وللمجتمعات.
ويزداد إلحاح السؤال ويتطلب إجابات عليه، عندما تتعرض الهويات الجزئية والكلية إلى محاولات التذويب أو التشويه أو الامّحاء.
في مرحلتنا الراهنة، يُثار سؤال الهوية، في بلاد عبَرت حرباً ظالمة طالت بناها الاقتصادية ونسيجها الاجتماعي وكثيراً من معتقداته ومكوناته الفكرية والثقافية، ووجد كل فرد فيها نفسه أمام أسئلة ملحة عليه أن يجيب عنها. والسؤال الأول فيها: كيف ستكون عليه بلاده بعد السبع العجاف؟ بمعنى آخر: ما هي الهوية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والثقافية لوطنه بشكل عام، وله على وجه الخصوص.
ليس من السهل الإجابة عن حزمة الأسئلة المطروحة، والجواب لن يكون واحداً، لتعدد الموضوعات المطروحة أولاً، ولتعقّد تفاعلات العلاقات بين حزم الأسئلة. وتختلف الأجوبة باختلاف المواقع والمرجعيات والرؤى السياسية التي تخضع في كثير من الأحيان لضغوط الإيديولوجيا.
مهما كانت الأجوبة متنوعة ومختلفة، يمكن إجمالها في السؤال النظري الأولي حول الجانب المعرفي من مسألة الهوية.
ثمة من يرى أن الهوية مِن (هو)، ولا يمكن إدراك (الأنا) إلا بمعرفة الآخر، وتملّك مكوناته، لأن جدل الأنا الآخر، يفضي إلى تركيب جديد يحدد العلاقة بين الخاص والعام، في تشكّل الهويات الفردية والجماعية.
وهناك من يقول الهوية من (الهوة) والهوة تعني العمق، والعمق يفضي إلى عدم التحديد وإلى عدم الوضوح، والهوة هي نهاية العمق، فالهوية هي البعيد العميق غير الواضح.
لكن كثيرين ممّن تناولوا مسألة الهوية معرفياً يقولون إن الهوية من الماهية، وماهية الشيء هي جوهره، والجوهر بما أن يحدد ويبلور، وهو المتكرر في الظاهرة، فهذا يعني أنه ثابت لا يتغير، فيما تفكيك الهويات الفردية والجمعية يقود إلى استنتاج واضح يشير إلى أن الهوية ليست ثابتة، وإنما هي قابلة للتبدل والتحول والتغيير بفضل عوامل كثيرة، وهي خاضعة للسياقات التاريخية والاجتماعية والثقافية.
تغيّر الهويات وتبدّلها لا يتعارض مع بعض مكونات الثبات فيها، هذا الثبات النسبي قابل للتحول في سياق المتغيرات.
الهوية مكوّنة من عناصر جزئية، تحدد صيرورتَها. وتفاعلُ المكونات، لا حاصلُ جمعها، يشكّل هوية الأفراد والمجتمعات، وصيانة هذه الجزئيات وتغذيتها، يُغْني الهوية ويساعدها على الاستمرار والنمو.
فالهوية على هذا الأساس ليست ماهية ثابتة، وإنما هي صيرورة، قابلة للتشكل باستمرار.
سؤال آخر ليس أقل أهمية من سؤال الماهية والصيرورة، هو: هل الهوية متشكّلة منتهية، أو هي قيد التشكّل؟ فإذا كانت منتهية، فهذا يفضي إلى أن تشكّلها قد تحقّق في الماضي، ومن المستحيل استعادة الماضي، بغض النظر عن مدى صلاحية الاستعادة وجدواها، إن لم نقل استحالة ذلك.
الهوية في الماضي، والحاضر، والمستقبل، تحددها اشتراطات الحاضر واستحقاقات المستقبل. أما الماضي فيها فهو محكوم بصلاحية استمراره والفائدة فيه.
إغلاق الهوية قتل لها، فهي منفتحة على الماضي والحاضر والمستقبل، كما هي متفاعلة مع هويات كثيرة محيطة بنا، قريبة أحياناً وبعيدة أحياناً أخرى، وتهديد الانغلاق لا يقل خطورة عن الانفتاح المطلق، دون أخذ الخصوصيات بعين الاعتبار، وجدل العام والخاص في تشكل الهويات من أعقد السيرورات في تكوين الهويات، وقابليتها للاستمرار.
التعدد خاصية الهوية، والتنوع أساس بنائها، والانفتاح على العالم يساعد الهويات على النمو والازدهار، ولا تعارض بين الجزئي والكلي في بنية الهوية، ولا بين الخصوصية والعمومية فيها.
ما هي هويتنا؟ وكيف يجب أن تكون؟ سؤال مفتوح على احتمالات معرفية، قيد البحث والدراسة، والتفكيك والتركيب، إنه سؤال مفتوح انفتاحَ الهوية على التجدد والتعدد، آخذين بعين الاعتبار أن أسئلة المعرفة لا يجاب عنها مرة واحدة وإلى الأبد، فكيف إذا كان السؤال متعلقاً بإشكالية الهويات؟!