العـــــــــولمـــــــة والثقــــــــافـة.. الصــــــــــــــراع والتمــــــــــــــازج
يتعالى صرير بوابات العالم وهي تتجه للانغلاق، وعبر موجات الأثير يجري التنديد بالمخاطر الجديدة التي تحيق بالثقافات القديمة والقيم التقليدية.. فالأقمار الصناعية وشبكة الإنترنت تنقل العدوى، وكلمة الأجنبي تصبح في عيون الكثيرين مرادفاً للخطر.
وبطبيعة الحال ليس الوقت الحاضر المرة الأولى في التاريخ التي تسمع فيها شعارات وأناشيد النزعات القومية والدينية، غير أن المد القومي والديني الذي يكتسح العالم اليوم فريد في طابعه، فهو يأتي كرد فعل لبديل عولمي من الواضح أنه يتجاوز – لأول مرة في التاريخ- ذلك الحلم الطوباوي للمفكرين المثاليين.. وهي المرة الأولى في التاريخ أيضاً التي أصبح فيها بوسع كل فرد في كل المستويات الاجتماعية أن يلمس تأثير التغيرات الدولية. إذ يمكنهم جميعاً أن يشاهدوها ويسمعوها في وسائل إعلامهم ويتذوقوها في طعامهم ويلمسوها في المنتجات التي يشترونها.. أما الأكثر تأثيراً بالنسبة للمتخوفين من هذه التغييرات فهو نمو تجمع عولمي للقوى العاملة يعاني من البطالة أو البطالة الجزئية، ويضم حالياً أكثر من مليار عامل، يعملون مقابل جزء ضئيل مما يتقاضاه نظراؤهم في الدول الرأسمالية المتقدمة.. ولن يكونوا أقل إنتاجية منهم إلا بهامش بسيط.
وإن أي فرد لن يكون سوى واحد من الذين تتهددهم هذه التغيرات أو من الذين يستفيدون منها، لكن من المستحيل تقريباً أن نتصور وجود جماعة ما لن تمسها هذه التغيرات.
وبالرغم من أن العولمة لها جذور اقتصادية وعواقب سياسية، إلا أنها سلطت الضوء أيضاً على قوة الثقافة في هذه البيئة الكونية- القوة التي تجمع وتغرق في وقت أصبحت فيه التوترات بين التكامل والانفصال تتأجج في كل قضية ترتبط بالعلاقات الدولية.
والواقع أن أثر العولمة في الثقافة وأثر الثقافة في العولمة يستحقان المناقشة.. فالتأثيرات المجانسة للعولمة والتي تلقى عادة الإدانة من قبل الكثير من المثقفين الرومانسيين، تلقى من جانب آخر التأييد من قبل آخرين، يؤكدون التأثيرات الإيجابية، لأنها كما يقولون تشجع التكامل، ولا تزيل فقط الحواجز الثقافية، وإنما أيضاً العديد من الأبعاد السلبية للثقافة، وبالتالي فإن العولمة هي خطوة حيوية نحو علم أكثر استقراراً.
الثقافة والصراع
إن الثقافة ليست ستاتيكية (سكونية)، فهي تنشأ عن احترام منهجي حثيث لعادات وتقاليد منتقاة، والواقع يمكن تعريف الثقافة بأنها نموذج كلي لسلوك الإنسان ونتاجاته المتجسدة في الكلمات والأفعال وما تصنعه يداه، وتعتمد على قدرة الإنسان على التعلم ونقل المعرفة للأجيال التالية. أما اللغة والمعتقدات والأنظمة السياسية والقانونية والأعراف الاجتماعية، فهي إرث المنتصرين وأبناء السوق، وتعكس حكم السوق على الأفكار عبر التاريخ الشعبي. ويمكن النظر إليها أيضاً باعتبارها نتاجات حية، ومفردات متفرقة ترتحل عبر السنين من خلال تيارات التعليم والقبول الشعبي والتمسك غير الواعي بالعادات.. وتستخدم الثقافة من قبل منظمي المجتمع – السياسيين ورجال اللاهوت والأكاديميين والأسر- لفرض وضمان النظام، الذي تغيرت مبادئه مع مرور الزمن وفقاً لما تمليه الحاجة.
ولم تستغل الثقافة كثيراً كوسيلة من وسائل تبرير الممارسات اللإنسانية والحرب، ومع ذلك فإن أي بحث عابر لتاريخ الصراع يبين تماماً لماذا جرى التوقع بحدوثه عبر خطوط الصدع الثقافي، وهي الخطوط التي تندلع عندها الصراعات تحديداً. والأسوأ من ذلك أن الاختلافات السياسية كثيراً ما تكرس من خلال ارتباطاتها بالجذور الغامضة للثقافة، سواء الروحية أو التاريخية، ونتيجة لذلك يصبح تهديد ثقافة المرء تهديداً لدينه أو لأسلافه، وبالتالي تهديداً لجوهر هويته، وقد استخدمت هذه الصيغة الملتهبة لتبرير العديد من أسوأ الأفعال الإنسانية.
ويمكن تصنيف الصراعات الثقافية داخل ثلاث فئات عريضة: الحروب الدينية، والصراعات العرقية، والصراع بين (أبناء العمومة الثقافية)، وقد استخدمت كلها لتبرير الصراع حول قضايا مثل المطالب المتعلقة بالموارد الطبيعية أو غيرها.
وفي كل هذه الصراعات كان يتم استخدام الثقافة لإلهاب المشاعر ولتبرير الأفعال أمام الشعوب. ولقد سقط مليون أرمني وعشرات الملايين من الروس وثلاثة ملايين كمبودي ومئات الآلاف من البوسنيين والروانديين وغيرهم ضحايا لـ(الثقافة)، بغض النظر عن أصولها العرقية والدينية والإيديولوجية والقبلية والقومية. وبلا ريب فإنهم سقطوا أيضاً ضحايا لمشاريع أخرى، لكن العناصر التحريضية للثقافة كانت بالنسبة لهذه المشاريع كما كان غوبلز بالنسبة لهتلر، مسهلاً للجريمة وربما الشريك الأكثر إثماً.
ويمكن للمؤرخين ضرب الأمثلة على ثقافة (مهيمنة) على مر العصور تجتث خصومها (الأضعف) في الغرب الأمريكي، وبين القبائل الأصلية في الأمريكيتين وإفريقيا، وأثناء عهد محاكم التفتيش، وفي الواقع خلال عهود توسع كل الإمبراطوريات الاستعمارية.
يؤكد أن هذه العملية ستقود إلى تجريد البشر من هويتهم، وإلى عالم عليل ووحيد النسق، غير أن هذا الأمر يستحيل على كوكب يعيش عليه سبعة مليارات إنسان، ويظهر التاريخ أن نجاح أي بلد في رأب الصدوع الثقافية والتحول إلى وطن لأناس متنوعين يتطلب هياكل اجتماعية معينة وقوانين ومؤسسات تعلي من شأن الثقافة.
إن التاريخ يقدم بعض النماذج والتجارب الناجحة في هذا السياق للتعددية الثقافية، وقد بنيت كلها على فكرة أن التسامح عامل حاسم بالنسبة للرفاهية الاجتماعية، وكلما كانت مسوغات الصالح العالم في إزالة السمات الثقافية التي تشجع الصراعات أو تحول دون تحقيق الانسجام أقوى حضوراً، جرى الاحتفاء بالتمايزات الثقافية الملموسة على المستوى الشخصي والحفاظ عليها.
والواقع أنه يستحيل تحقق تلك النماذج التكاملية على المستوى الكوني على المدى القريب، كما أنها لن تتحقق من خلال قرارات رشيدة تمهد السبيل لتطبيق سياسات وبرامج مدروسة بعناية، رغم أن موجهي عملية العولمة المتسارعة يقومون بتحسين وسائل وأنظمة النقل الدولية، ويبتكرون تكنولوجيات وخدمات ثورية جديدة في مجال المعلومات، ويهيمنون على السوق الدولي للأفكار والخدمات، وهو بالطبع ما يؤثر في أسلوب الحياة والمعتقدات واللغة وكل مكونات الثقافة الأخرى.
وهنا لابد من التأكيد أن التكنولوجيا لا تُحدث فقط تحولاً في العالم، بل إنها تخلق عالمها المجازي أيضاً.. إلا أن العديد من المفكرين يرون أن استغلال الفرص التي خلقتها الثورة المعلوماتية الكونية للترويج للثقافة العولمية على حساب الثقافة الأخرى هو شيء بغيض، فالثقافة العولمية والأمريكية على وجه الخصوص، تختلف جوهرياً عن الثقافات ابنة بيئتها في العديد من المجتمعات، وإن فرضها على الآخرين يحمل في طياته الكثير من التعسف. إن التمازج الحضاري يتطلب بناء روابط قادرة على خلق مستودع دائم الاتساع من المصالح المشتركة بين الشعوب يتزايد حجمه باستمرار، وتقليص التفاوتات التي يؤدي استمرارها إلى تعزيز النزعات العدائية بين الشعوب، وتوسيع الهوة بين نزعتي التكامل والانعزال، ووضع الثقافات العالمية بحالة تعارض وصدام عوضاً عن أن تتكامل وتتفاعل معاً.