أسماء الصالح.. والوداع الأخير
في ساحة النضال الوطني الواسعة، هناك الكثير من الرفاق والرفيقات والأصدقاء من يتعذر عليك التسليم بغيابهم بعد أن تُفاجأ يوماً برحيل أحدهم لا عودة بعده أبداً.
عصية وموجعة على الفهم حكاية الوداع الأخير، وليس للروح وللنفس البشرية القدرة على استيعاب الحدث المؤلم، رغم أن حضورهم متوهجاً في ضمائر الأسئلة وصمت الكلمات.
ودعت دمشق قبل أيام المناضلة الشيوعية أسماء الصالح، بعد أن أمضت عمراً طويلاً مشبعاً بالنضال الوطني والطبقي والاجتماعية عامة ومن أجل النهوض بوضع المرأة خاصة.
ولدت أسماء كامل صالح في عائلة وطنية عريقة تحمل إرثاً عالياً عام 1931 وهي كبرى أخواتها، والدتها فاطمة بنت الشيخ سليمان الأحمد الشاعرة السورية المعروفة بـ(فتاة غسان)، و(شاعرة الإنسان والوطن)، وهي أخت (بدوي الجبل) محمد سليمان الأحمد، أحد أعلام الشعر العربي في القرن العشرين وعضو مجمع اللغة العربية في دمشق الذي كان مناصراً للثوار الوطنيين الأبطال أمثال إبراهيم هنانو وصالح العلي، وسلطان باشا الأطرش وعبد الرحمن الشهبندر وغيرهم الذين دافعوا عن حرية الوطن واستقلاله ضد المستعمر الفرنسي.
في هذه الأجواء الوطنية والطبقية عاشت أسماء حياتها وبعد أن أنهت دراستها الثانوية التحقت بكلية الآداب في جامعة دمشق لدراسة اللغة العربية وآدابها في أوائل الخمسينيات وسرعان ما انضمت إلى الحركة الطلابية في الجامعة مساهمة بكل النشاطات الوطنية والمطلبية التي كانت تقوم بها الحركة في حينه في سنوات الخمسين، وكان الطلاب الشيوعيون في الحركة يناقشون قضايا حيوية تهم الدراسة والبرامج وأوضاع البلاد.. كانت أسماء تصغي بانتباه لما يدور حولها متأثرة ومؤثرة في دعم هذه الفكرة أو تلك، فانتسبت إلى الحزب الشيوعي السوري في السنة الأولى من دراستها، ورغم أن عدد الطالبات الجامعيات كان قليلاً نسبياً، إلا أنها سعت لإقامة علاقات مع عدد من الطالبات دفاعاً عن حقوق البنات في الوصول إلى مستويات علمية متطورة.. وفي الجامعة واجهت التقاليد الصارمة والذهنبية المتحجرة بقوة من خلال سلوك بعض الطلاب الذي يرزح تحت عبء التقاليد التي تصادر حرية المرأة والنظرة الدونية لها.
بعد تخرجها في الجامعة التحقت بسلك التعليم، فعملت مدرّسة للغة العربية في الثانويات السورية المختلفة، وخلال عملها التربوي نسجت علاقات إنسانية حميمة مع من حولها من طالباتها وزميلاتها في المدرسة، وكانت من الشخصيات المتميزة في المجال التربوي، ورأت في أوضاع المدرسات والطالبات الكثير من الأمور التي يجب أن تجد حلاً لها، من خلال الدفاع عن حقوق المرأة والقوانين المتعلقة بها، فانتسبت إلى المنظمة النسائية العريقة في سورية (رابطة النساء السوريات لحماية الأمومة والطفولة) التي تأسست عام 1948 فكانت ميدانها الأرحب وفيها وبها خاضت النضال.. كانت تدرك ورفيقاتها في الرابطة أن أماً جاهلة تنتج أمة جاهلة، فكان التركيز على قضايا التربية ميدانها الأساسي، وكان لدى الرابطة برنامج لمكافحة الأمية التي كانت نسبتها في الخمسينيات كبيرة جداً لدى النساء والفتيات، فساعدت ورفيقاتها في إقامة دورات متعددة لمكافحة الأمية بالتعاون مع وزارة الثقافة السورية (قسم محو الأمية) لتوفير الوسائل الضرورية في أعوام 1972 وما بعدها.
كانت أسماء تتمتع ببساطة متناهية وحس وطني وطبقي رفيع، دمثة الأخلاق صادقة مع نفسها ومع الآخرين، الأمر الذي طبع مجمل مواقفها وحياتها السياسية والحزبية.
كانت مؤمنة بأهمية الحوار مع الآخرين رغم اختلاف وجهات النظر مهما كانت، بعيداً عن التعصب وضيق الأفق.. وقد عانت كثيراً من الانقسامات المتتالية في الحزب التي كان بالإمكان حلها فيما لو توفرت النوايا الطيبة وعدم التشبث بالرأي، وكانت تشعر بخسارة كبيرة في ابتعاد الرفاق الجيدين عن الحزب بسبب آرائهم.
آمنت بعمق بالفكر التنويري والعقلاني وبالاشتراكية العلمية التي لم تبارحها يوماً حتى رحيلها.
كان أول لقاء مع أسماء في موسكو في لحظة تاريخية في ذاكرة الشيوعيين واتحاد الشباب الديمقراطي في سورية ولبنان عندما كنا حزباً واتحاداً واحداً في المهرجان العالمي للشباب والطلاب عام ،1975 وقد أخطر وفدنا اللبناني أن يأتي إلى سورية للسفر بعد أن منعت السلطات اللبنانية أيام كميل شمعون الوفد من السفر إلى خارج البلاد، ورغم كل الصعوبات استطاع وفدنا الوصول إلى اللاذقية حيث كانت تنتظر الباخرة الروسية (غروزيا على ما أذكر اسمها).
مهرجان موسكو للشباب والطلاب حسب تقديري كان نقطة انعطاف في المسيرة النضالية لشباب العالم، هناك قابلت أسماء الشابة الجميلة اليافعة الممتلئة نشاطاً وحيوية وحماساً في الندوات الثقافية المشتركة وتركت في نفسي ونفس رفيقاتي الطالبات أثراً لا يُمحى.
ومرّت الأيام وعاش الشيوعيون في سورية ولبنان ظروفاً استثنائية أثناء الوحدة المصرية – السورية، زمن تسلط السراج ورجال المباحث ومقتل القائد الوطني الشيوعي الكبير فرج الله الحلو.
ففي بداية عام 1959 اعتقلت أسماء الصالح في الحملة الشرسة التي شُنت على الحزب الشيوعي السوري، فاعتقلت وزجت في سجن المزة للنساء، فتعرضت لتعذيب شديد كاد أن يودي بها ولكنها صمدت وتحملت، ولم تفقد الثقة بنفسها وبإمكانية المقاومة، وجرت حملة عالمية واسعة قادها الاتحاد النسائي الديمقراطي العالمي ومنظماته الوطنية على النطاق العالمي، وكان لهذا تأثير كبير على الإفراج عن أسماء.
كان للجنة حقوق المرأة اللبنانية دور كبير في توقيع العرائض في لبنان للإفراج عن المعتقلين السياسيين في سورية وتشكيل الوفود للمطالبة بالإفراج عنهم، وكانت المرة الثانية التي ألتقي فيها بأسماء ولكن في لبنان، وفي بيتنا وبيت رفيقتنا جورية صدقة الغربية، وهذه البيوت لها تاريخ في حياة حزبنا الشيوعي اللبناني – السوري، وللحزب تاريخ معها، إذ تحولت أثناء الوحدة المصرية – السورية إلى بيوت للذين تعرضوا للقمع والاضطهاد والملاحقة وغادروا إلى لبنان.
وبعد الإفراج عن أسماء ووصولها إلى لبنان أُرسلت للدراسة الحزبية في موسكو وهناك تعرفت على الرفيق الشيوعي المناضل علاء الرفاعي فتزوجا.
كان علاء رفيقاً جيداً ومتميزاً عمل لسنوات طويلة في مجالات حزبية متعددة سرية وعلنية، وبعد انتهاء دراستهما عادا إلى سورية واستمرا في النضال.
لم يكن انضمام اسماء إلى الحزب الشيوعي تعبيراً عن التزام وحسب، بل ربطت حياتها كلها به ولم تتقاعس عن مهمة كلفت بها ولم يتبعها التزامها بشؤون الناس ومتاهة عيشهم وآلامهم وتوغلت في أنحاء المجتمع وبالسياسة، فساهمت بكل النشاطات التي كان يقوم بها الحزب من أجل قضية الشعب والوطن والنهوض بالمرأة، وآخر ما قامت به في ساعاتها الأخيرة هو تسديد ما يترتب عليها من اشتراك مالي في هيئتها الحزبية، واشتراك (النور).
بمثل هذه الروحية ناضلت رفيقتنا أسماء الإنسان الرائعة..
ستبقى ذكراها راسخة في نفوسنا، في نفوس كل من عرفها، وستبقى أعمالها إحدى المنارات التي يهتدى بها في مسيرة الحركة النسوية العالمية عامة والسورية خاصة..
فتحية لروحها الطاهرة.. وكل العزاء لعائلتها الكريمة التي تستحق كل احترام وتقدير.. ولأولادها ريا وفرج وأسامة.. ولإخوتها يونس وسعاد وإمامة وسليمة.