الأجناس الأدبية.. تنتج حدودها وتغيرها
في الأمسيات الأدبية والصفحات الثقافية كثيراً ما يطالعنا المشاركون بما يدعونه (نصاً)، أي أنهم يبتعدون عن تسمية نصوصهم، متجاوزين قضية (التجنيس الأدبي)، بحجة كتابة نص مفتوح متمرد على قيود الأجناس الأدبية التي تحاصر الكاتب وتساهم في مصادرة حرية المكتوب في التشكل الحر وفق الدفقات الشعورية للمؤلف.
ثمة قواعد ومحددات تقرها المؤسسة النقدية لكل جنس أدبي، تستمدها من النصوص نفسها، هذه المحددات ليست ثوابت مطلقة، وإنما هي قابلة دائماً للاختراق والتجاوز، على أن يبقى في النصوص ما هو ثابت نسبي يحدد ماهيتها، أو لنقل هويتها، مع الاعتراف بأن الهويات تتمتع بإمكانيات لا نهائية في التشكل والصيرورة، وفق مقتضيات الزمان ومتطلباته.
عندما نستمع إلى نص أدبي أو نقرؤه دون تجديد، يذهب ذهن المتلقي إلى فضاءات بعيدة يصعب حصرها، وتحتار مجسات التلقي لديه كيف وبأية طريقة سيتلقى النص، لكن عندما نسمي النص قصة مثلاً، تبدأ عملية التلقي بالبرمجة عن طريق اللاشعور بتحضير الذهن وفق مقومات معروفة تستدعيه الأصول أو العناصر المكونة للقصة، آخذة بالحسبان حرية الكاتب في إضافة أحد هذه العناصر، أو حذفه، أو تبديله، أو تقديمه أو تأخيره.
فمثلاً القصة القصيرة تحتاج إلى تكثيف في الحدث، واقتصار في اللغة، ودقة في الوصف واختصار في الحوار إن وجد، لكن كل ذلك لا يمنع من استضافة عنصر من مقومات الشعر، والاستفادة منه في بناء القصة، على أن تبقى القصة قصة، عمادها الحكاية مقدمة بشكل فني، دون أن تتحول إلى خاطرة أو ما يمكن أن نطلق عليه تجاوزاً (قطعة نثرية) تعتمد الشعر.
كثيراً ما يستخدم الشعراء الحكاية في قصائدهم، مستفيدين مما تحمله من قدرة على شد المتلقي والتأثير بعواطفه، ما يعرف نقدياً بـ(تسريد الشعر)، والخشية أن تتحول القصيدة، وهي أحد تجليات الشعر، إلى قصة قصيرة.
التقارب بين الخاطرة والقصة القصيرة، وقصيدة النثر، قد يؤدي إلى خلط أجناسي بينهما، يلغي الحدود، ويقرب المسافات باتجاه ما يدعى (النص المفتوح).
عرف تاريخ الأدب منذ القديم محاولات جادة لاختراق الحدود بين النصوص والدعوة إلى نصوص تتجاوز المتعارف عليه من قواعد الأجناس، لكن الذين حاولوا التنظير والكتابة، كانوا أدباء كبار، عرفوا ومارسوا الكتابة الأدبية ونجحوا في إنتاج أنواع مختلفة من النصوص الأدبية، محافظين على أدبية إنتاجهم، دون التقيد الصارم بحدود الأجناس الأدبية، فبذلك حق لهم أن يتجاوزوا بعد عملية معقدة من التملك المعرفي والفني لكل الأجناس الأدبية السابقة عليهم والمعاصرة لهم.
أما أن يأتي من لا خبرة له في الكتابة ومعرفته محدودة في تاريخ الأجناس الأدبية، ويكتب لنا نصاً (مفتوحاً) بحجة التجاوز والتخطي ومغايرة المألوف، فهذا لا يمكن أن يخفى على ذوي البصيرة والخبرة النقدية.
تبقى مسألة الحدود الفاصلة بين الأجناس مثار بحث واجتهاد، فالنصوص تنتج أنظمتها وتستخلص قوانينها، وهي متبدلة متغيرة دائماً، لكنها في الوقت نفسه تحافظ على ما يحدد ماهيتها وفق صيرورات مفتوحة على التطور والتبدل بعيداً عن الانغلاق والتقوقع.
في كل الأجناس الإبداعية ثوابت، تحدد ماهية الجنس الأدبي، وفيه متغيرات دائمة الحدوث، ولعل الجدل بين الثابت والمتحول في الأجناس الأدبية أحد أهم عوامل التجديد والتطور البنيوي فيها، وفق قانون: الثابت التكويني والمتغير النهائي.