ويهتف شيخموس: بس يا جنز

يحدث هذا كلَّ ثانية في شوارع مدن العالم، فتيات وفتيان بالجنز. جنز بأشكال وألوان متنوعة فيها القصير والطويل، الضيق والواسع، المقطّع والمرقوع، الرثُّ والخَلق. ما هذا الجنز الذي يملأ الدنيا ويشغل الناس؟ ويبقى الجنز أحد أكثر الملابس شعبية وأكثرها إثارة للاهتمام على مر الزمن. إذ يخلق هذا النوع من الملابس ارتباطاً عاطفياً مع مرتديه. نعم، فما إن تبدأ في ارتدائه حتى يظهر أثره في شخصيتك. يكتب حسيب كيالي في سياق قصته (جنز) الواردة ضمن مجوعته القصصية (الحضور في أكثر من مكان) الصادرة في دمشق عام 1979يقول: في الشمال السوري بين مدينة إدلب وبلدة معرتمصرينن ضيعة تُسمى (الفوعة) اشتُهرت من بين ما اشتُهرت به من المنتجات الزراعية المعروفة في المنطقة بصناعة يتوارثها الأبناء عن الآباء عن أجداد الأجداد، هي صناعة (الخام)،إذا قلتَ: خام فوعي، عنيت قماشاً اضرب فيه السكين ترجع عنه. لماذا لا يُفصّلون البناطيل من هذا الخام الرائع ويصنعون منه جنزاً لا يبلى، والقطن من عندنا واليد العاملة من عندنا؟

نعم يا عمي حسيباً، ها هم عمالنا من شمال بلاد الشام يساهمون في صناعة الجنز من هذا الخام هنا على شاطئ بحر إيجة، يعملون من الثامنة صباحاً حتى الثامنة مساءً بقوت يومهم. وأتساءل من يعمل اثنتي عشر ساعة في اليوم لتأمين لقمة عياله؟ قال أحد أصدقاء العمل: والله لو كان (آدم) مستلقياً على سرير من العسل كلّ هذا الوقت لتعب. والأكثر شناعة وفظاعة ورعباً وردية العمل الليلي من الثامنة مساءً حتى الثامنة صباحاً. نحن في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين وما يزال رأس المال نهماً جشعاً لا يشبع، يُطلُّ علينا كل صباح بوجهه القبيح. وأسمع صوت شيخموس في وردية الليل يهتف من قلب موجوع ويدين كلتا من العمل في بنطلونات الجنز: بس يا جنز! مستعيراً عنوان أول فلم عن عمال (غوص اللؤلؤ) ومعاناتهم اليومية في مياه الخليج العربي باسم (بس يا بحر) و(كُلُّنا في الهوا سوا).

أتذكَّر، في ضجَّة ليل مُرخٍ سدوله في فضاء المعمل الذي صار أليفاً، صديقي كارل ماركس وكتابه (رأس المال) فهو الذي أطلق هذه الحركة المشاعية التي انتظم فيها ملايين الجياع في شتى القارات، وأدت إلى تحسين جذري في معيشة الكادحين على نطاق كوكب الأرض، وهذا ما سعى إليه من تأليف كتابه الشهير. ماركس من أولئك الفلاسفة الكبار الذين يتمتعون بقدرة مذهلة على الاستمرار، فقد تكامل مشروعه المشاعي فكرياً واقتصادياً واجتماعياً وسياسياً. ويحضرني هنا قول أحد العاملين المخضرمين في أضخم بنك الاستثمار في الولايات المتحدة الأمريكية: كلَّما طال بقائي في (وول ستريت) ازدادت قناعتي أن آراء كارل ماركس الاقتصادية كانت على صواب. وجائزة نوبل تنتظر ذلك الاقتصادي الذي سيبعث ماركس ويجمع آراءه كلَّها في نموذج متماسك. أنا مُقتنع بالكامل أن طرح ماركس هو أفضل طريقة لرؤية الرأسمالية. ألم يؤمن يقيناً أن الطريقة التي يعمل بها المجتمع على تنظيم الإنتاج تصوغ في النهاية مواقف الناس ومعتقداتهم؟

أين أنت يا كارل ماركس ها نحن: شيخموس، جنكيز، ميخائيل، خورشيد، سُليمان، سُلطانة، آدم، يوسف، موسى، عيسى، أحمد، عبد الرزاق، وعشرات الأسماء السورية الأخرى التي تعمل في أحد أضخم معامل الجنز في بلاد الأناضول. وكحت الجنز يحتاج إلى مكحتة، والمكحتة لمن لا يعرف هي التي تُعطي لباس الجنز هذه الملمس الطَّري وهذا اللون الفريد الذي لا يظهر من دون الكحت. غسالات عملاقة يتسع حوضها (وهو من ستانلس ستيل) لأكثر من مئة بنطال ومئتين وخمسين كيلو من البحص الصناعي، البحصة الواحدة بحجم بحص جبلة بيتون صب الأسطح. هذا البحص مع الماء والمساحيق يعمل على تلطيف خشونة قماش الجنز. وهناك أقسام أخرى يمر بها الجنز حتى يستوي قطعة لباس معتبرة تسرّ الخاطر و الناظر.

هؤلاء العمال من شمال بلاد الشام، حيث كل شيء مرتفع، الروابي، والنهود، والجباه، على حد تعبير الشاعر صقر عليشي في واحدة من أجمل قصائده. تتأمل وجوههم، فتجد في عيونهم حزناً لا يكفي قرناً من البكاء لمحو آثاره، هذا الحزن يظهر جلياً في نظرات عيونهم التائهة الكليلة من تعب أيام العمل الطويلة في هذا المدى المفتوح على شبابيك الوطن البعيد، وكأنه الحزن الذي قال فيه الثائر الأرجنتيني الشهير أرنستو تشي جيفارا: (كنتُ أتصور أن الحزن يمكن أن يكون صديقاً، لكنني لم أكن أتصور أن يكون وطناً نسكنه، ونتكلم لغته، ونحمل جنسيته) تحول حزنهم إلى هوية. فجاء شاعر كوردستان (شيركو بيكه سه) ليقيس أحزانهم فقال: جاء التاريخ وقاس قامته بقامة أحزانكم، كانت أحزانكم أطول. أما من علاج لهذا الأسى الإنساني المقيم؟ أم صار الأسى عندنا جبلاً يتمشى معنا وينتقل؟.

العدد 1140 - 22/01/2025