المشاعيون الأوائل

عبد الرزاق دحنون:

سُئل أعرابيّ: لو كنت خليفةً في بغداد كيف كنت تصنع؟ قال: كنت أولّي شريف كلّ قوم ناحيته، ثم أخلو بالمطبخ، فآمر الطّهاة، فيعظمون الثّريد ويكثرون اللّحم والعظم والمرق، فأبدأ فآكل لقماً، ثم آذن للنّاس، فأيّ صنيع يكون بعد هذا؟

لقد أدرك هذا الأعرابيّ بفطرته البدويّة، وهو القادم من مجاهل الصّحراء، في قوله هذا جوهر العلاقة بين الرّاعي والرّعيّة. وصدر هذا الكلام شبيه بشيء لا بأس بروايته في هذا الموضع، فقد شكا الفضل بن سهل، وزير المأمون بن هارون الرشيد وصاحب تدبيره، إلى الزبير بن بكار، عالم الأنساب وأخبار العرب، كثرة من يقتفي بابه للحوائج فقال: لا عليك إن أحببت ألا يلتقي ببابك اثنان فاعتزل ما أنت فيه من عمل السّلطان، فإنّ نعم الله جاءت بهم إليك.

وأزعم- وعساه يكون زعماً مقبولاً- لا عيب في أن تقوم العلاقة بين الحاكم والمحكوم على إطعام الجياع والمساكين وأهل السّبيل. وأظنّها بادرة طيبة أن يكون للحاكم مطاعم شعبيّة مجانيّة منتشرة في أرجاء البلاد يدخلها من شاء ليأكل ما شاء دون حسيب أو رقيب. وإطعام الخلق وإشباعهم مهمة جليلة تستحق الثّناء والتّقدير، وأعتقد بأنّها ليست منّة من الحاكم بل هي فرض عين، لأنّه نقل عن عمر بن الخطاب قوله: أسعد النّاس من سعد به النّاس وأشقاهم من شقوا به.

وقيل لبعضهم: ما الكرم؟ فقال: طعام مبذول، ونائل موصول، ووفاء لا يحول. وقد قال سفيان الثّوريّ: إنّي لألقى الرّجل فيقول لي مرحباً، فيلين له قلبي، فكيف بمن أطأ بساطه وآكل ثريده وأزدرد عصيده؟ وقيل للحسن: من السّخي؟ فقال: الذي لو كانت الدّنيا له فأنفقها لرأى عليه بعد ذلك حقوقاً.

والمطعمون من أهل الخير والكرم لا يُمَلُّ حديثهم مع أنه معاد، تقرؤه أو تسمعه كأنك تسمعه أوّل مرّة. وقد خاض النّاس قديماً وحديثاً خوضاً مشبعاً في هذا الباب، ونحن هنا إذ ننقّب في بطون الكتب قصدنا أن نعيد هذا القول الطّريف اللّطيف من الكلام إلى الحياة، وأن نستحثّ أهل الخير على صنع المعروف بين النّاس. وقد قال رسول الله: تجافوا عن ذنب السّخي فإنّ الله يأخذ بيده كلما عثر. وقال أيضاً: ليلة الضّيف حق واجب، فمن أصبح بفنائه فهو أحق به إن شاء أخذ وإن شاء ترك. وقيل لإبراهيم الخليل: بأيّ شيء اتخذك الله خليلاً؟ قال: ما تغدّيت وما تعشّيت إلّا مع ضيف. وما زال أحفاد إبراهيم الخليل في مدينة الخليل في فلسطين يطبخون الطعام في قدور ويطعمون كلّ محتاج إلى طعام حتى يومنا هذا.

وقيل للمغيرة بن شعبة: من أحسن النّاس؟ قال: من حسن في عيشه عيش غيره. وجاء في الخبر: قام رجل إلى الخليفة فقال له: سألتك بالرّحم الذي بيني وبينك. فقال الخليفة: أمن قريش أنت؟ قال: لا. قال: فمن سائر العرب؟ قال: لا. قال: فأيّة رحم بيني وبينك؟ قال: رحم آدم. قال: رحم مجفوّة. وأعطاه.

وفي المثل: بعض البقاع أيمن من بعض. قاله أعرابي تعرّض لمعاوية في طريق وسأله، فقال معاوية: مالك عندي شيء، فتركه ساعة ثم عاوده في مكان آخر، فقال: ألم تسألني آنفاً؟ قال: بلى، ولكن بعض البقاع أيمن من بعض، فأعجبه كلامه ووصله.

وقال رسول الله: من كان له ظهر فليعد على من لا ظهر له؛ ومن كان له زاد فليعد على من لا زاد له، حتى رأينا أنه لا حقّ لأحدٍ منا في الفضل. وقال الأصمعيّ نقلاً عن أهل الوبر: ليست الفتوة الفسق ولا الفجور، ولا شرب الخمور، وإنما الفتوة طعام موضوع، وصنيع مصنوع، ومكان مرفوع، ولسان معسول، ونائل مبذول، وعفاف معروف، وأذى مكفوف.

قال بعض الأعراب: قدم علينا الحكم بن المخزومي ولا مال لنا، فأغنانا عن آخرنا، فقيل: كيف ذلك؟ فقالوا: عَلّمنا مكارم الأخلاق، فعاد أغنياؤنا على فقرائنا فصرنا كلّنا أجواداً. وسئل ابن عمر: ما حق الإنسان على الإنسان؟ قال: ألا يشبع ويجوع وألا يلبس ويعرى. وقال إبراهيم بن الجنيد: أربعٌ لا ينبغي لشريف أن يأنف منهنّ وإن كان أميراً: قيامه من مجلسه لأبيه، وخدمته للعالم يتعلم منه، والسّؤال عما لا يعلم ممن هو أعلم منه، وخدمته الضيف بنفسه إكراماً له.

وكان السّلف الصّالح من الكرام الذين يتسعون في أحوالهم يوسعون على غيرهم من سعتهم، وكانوا يرون الغنيمة في الكرم، والرّبح في البذل، والحظ في الإيثار، والزّيادة في النّقص، والشّاعر يقول:

أنتَ للمالِ إذا أمْسَكْتَهُ

فإذا أنْفَقْتَهُ فالمالُ لَكْ!

نعم، كانوا إذا وُلّوا عدلوا، وإذا ملكوا أنعموا، وإذا أعطوا أجزلوا، وإذا سُئلوا أجابوا، وإذا افتقروا صبروا، وإذا نالوا شكروا.

وكان لهم مع الخلق معاملةٌ جميلة. وكانوا إذا تلاقوا تواصوا بالخير، وتناهوا عن الشّر، وتنافسوا في المعروف، لقد اجتهدوا أن يكونوا خلفاء الله على عباد الله بالرأفة والرحمة والعدل. أين نحن من أولئك القوم الأبرار الذين صنعوا حضارةً عملاقة استمرّت لقرون؟ ومن نهج هؤلاء الأبرار أنهم كانوا مع التسبيل، ويعني وضع المال في السّبيل الذي هو الطريق حتى يأخذه النّاس أو السّابلة ويتوزعوه فيما بينهم بالقسط، أو جعله في سبيل الله، أي توزيعه على عباد الله من الفقراء والمساكين. والمصطلح أورده فيلسوف المعرّة بقوله في اللزوميات:

ففَرِّقْ مالَكَ الْجَمَّ

وَخَلِّ الأرضَ تَسْبيلا!

وماء السّبيل مرفقٌ عامّ يقدّم ماء الشّرب مجاناً للنّاس، وهو أحد أشكال النّزعات المشاعيّة القائمة في الشّرق ما تزال. وقد ذكر الباحث والمؤرخ الإدلبي الأستاذ فايز قوصرة في كتاب (من إبلا إلى إدلب) أحد عشر سبيلاً في مدينة إدلب في الشّمال الغربي من سورية تتوزع في حاراتها حين كان الماء عزيزاً في منتصف القرن الثّامن عشر في الشّمال السّوري.

وقد قرأت في كتاب (نزهة الأنام في محاسن الشّام) للعلامة عبد الله بن محمد البدري، الذي عاش في القرن الرّابع عشر من ميلاد السّيد المسيح: كان أصحاب البساتين في ربوع الشّام يضعون فاكهة الصيف المتنوعة في أجران حجرية على أبواب البساتين، ومن يحتاج من أبناء السّبيل يأخذ منها حاجته. ومن الفلاحين من يزرع أشجاراً للفقراء والمساكين يعرفونها بالتكرار، وغالباً ما تُزرع قرب الطرقات ليسهل تناولها. وكان جدّي عثمان دحنون- رحمه الله- فلاحاً مرابعاً، يستأجر الأرض ويأخذ ربع إنتاجها، ومع ذلك يحمل من حصته من ثمر التين والعنب وخضار الصيف من بندورة وعجّور- في فلسطين اسمه: فقّوس- وقرع وبامية ولوبياء وخيار ولوز وجوز إلى بيوت الفقراء والمساكين. وشكر الله سعينا وسعيكم أجمعين!

العدد 1132 - 13/11/2024