كتاب هامّ في الثقافة الاقتصادية.. الاقتصاد السياسي للركود التضخمي
(دارسات لصنّاع السياسات الاقتصادية) للدكتور رسلان خضور
د. منير الحمش / (الرئيس السابق لمجلس إدارة الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية)/
تلقيت من الزميل الصديق د. رسلان خضور نسخة من كتابه الجديد (الاقتصاد السياسي للركود التضخمي) ـ دراسات لصناع السياسات الاقتصادية.
ويبدو من العنوان أن الكتاب يُعالج مشكلة أو ظاهرة الركود التضخمي من وجهة نظر الاقتصاد السياسي، وأنه يتوجه إلى صناع السياسات الاقتصادية.
وإذا كانت المكتبة الاقتصادية العربية تحوي العديد من الكتب والمراجع التي تعالج المشكلات الاقتصادية، إلا أنني اعتقد أننا لا نزال بحاجة إلى المزيد للإسهام في نشر الثقافة الاقتصادية، وجعل الكتب التي تفي بالأمور الاقتصادية أكثر رواجاً وأكثر قرّاءً تحقيقاً للفائدة وللإسهام في نشر الوعي الاقتصادي، وكنت دائماً أدعو إلى تبسيط لغة علم الاقتصاد لتجعله أكثر قبولاً لدى القارئ العادي غير المختص. ولدى تفحصي لكتاب الدكتور رسلان وجدته يلبي هذا الهدف. عندما نظر إلى ظاهرة أو مشكلة الركود التضخمي من زاوية الاقتصاد السياسي أي النظر إلى هذه الظاهرة أو المشكلة، على أنها ليست مشكلة اقتصادية بحتة، بل إن لها أبعاداً سياسية واجتماعية فضلاً عن الأبعاد الاقتصادية، ولهذا يركّز د. رسلان على دور التفاوت الحاد في توزيع الثروات والدخول، وعلى دور سطوة الاحتكارات والفساد كأفعال سياسية واجتماعية، لها دور في بروز المشكلات الاقتصادية وتأزمها.
فالدكتور رسلان، إضافة إلى خبرته الأكاديمية، يتمتع برؤية سياسية ـ اجتماعية تجعله لا ينسى أصوله الاجتماعية التي لا تزال تحفر في ذاكرته وحياته المعيشية والعلمية.
ومنذ أن عاد من ألمانيا بعد نيله شهادة الدكتوراه في العلوم الاقتصادية من جامعة مارثن لوثر (1988) وهو يقوم بتدريس المواد الاقتصادية في كلية الاقتصاد (جامعة دمشق). ثم تولى مهام عميد الكلية وعميد معهد التخطيط الاقتصادي والاجتماعي، كما تولى رئيس وعضو مجلس إدارة ومجلس أمناء عدد من مؤسسات اقتصادية وأكاديمية. ولم ينقطع عن التعايش مع الناس وهمومهم من خلال موقعه الأكاديمي ومن خلال احتكاكه بآراء قطاعات واسعة من المواطنين في جمعية العلوم الاقتصادية السورية، وفي الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية (القاهرة)، فأصدر عدداً من الكتب الجامعية وغير الجامعية. والتي أهمها: الاقتصاد الرياضي (1996) ـ اقتصاديات البيئة (1997) التحليل الاقتصادي الجزئي (2008) ـ مدخل علم الاقتصاد (2015) ـ حسابات الناتج والدخل القومي (2019) ـ دراسات في الجدوى الاقتصادية (2023) إلى جانب عشرات الأبحاث والدراسات المنشورة في مجلات علمية محلية وعربية وعالمية.
وفي كتابه الجديد (الاقتصاد السياسي للركود التضخمي) ـ يعلم القارئ سلفاً أنه يستخدم نهج الاقتصاد السياسي في بحثه عن الركود التضخمي، كما أنه يتوجه بدراساته إلى صناع السياسات الاقتصادية.
والمؤلف إذ يقارب مشكلة الركود التضخمي باعتبارها مشكلة أو ظاهرة اقتصادية وسياسية، وليست مشكلة أو ظاهرة اقتصادية بحتة، كما تتناولها المدارس الاقتصادية التي تركز على النماذج القياسية ودور المتغيرات الاقتصادية من زاوية فنية تقنية تعالج من خلال النظريات الاقتصادية والمعادلات والجداول والبيانات الاحصائية.
إن النظر إلى مشكلة الركود التضخمي كظاهرة أو مشكلة اقتصادية ـ سياسية يعني أن يتم التركيز على دور التفاوت الحاد في توزيع الدخول والثروات، وعلى دور سطوة الاحتكارات، وعلى دور الفساد والإفساد وغير ذلك من القضايا ذات الطابع السياسي والاقتصادي والاجتماعي التي تظهر التقاطع والتشابك المعقد بين الاقتصاد والسياسة.
والدكتور رسلان عندما ينظر إلى كتابه على أنه (دراسات لصناع السياسات الاقتصادية) كما جاء في عنوان الكتاب، إلا أنه يتوجه بكتابه أيضاً إلى القارئ غير المختص بالاقتصاد وإلى الرأي العام المتلهف إلى قراءة ما يفسر له حقيقة ما يعيشه ويعانيه من ارتفاع غير مفهوم بالأسعار وتعرفات الخدمات (خاصة النقل والانتقال). لهذا يحرص الكاتب على تقديم مادته العلمية بأفضل وأسهل المعاني والألفاظ اللغوية، بحيث يستفيد من الكتاب القارئ المختص وغير المختص. فيقرأ باستمتاع ما يكتبه مختصٌّ (بالعلم الكئيب)[1].
توزع الكتاب إلى أربعة فصول:
الفصل الأول بعنوان: لماذا الاقتصاد السياسي للركود التضخمي؟
الفصل الثاني: ظاهرة الركود التضخمي ومؤشراتها.
الفصل الثالث: الأسباب الكامنة وراء الركود التضخمي.
الفصل الرابع: آليات معالجة الركود التضخمي.
وحسناً فعل المؤلف عندما بدأ ببيان أسباب الأخذ بمنهجية الاقتصاد السياسي في دراسة مشكلة الركود التضخمي. فقد حدث إفراط في استخدام النماذج القياسية والرياضية في تفسير حالة الركود التضخمي وغيرها من الظواهر الاقتصادية، بحيث تحول علم الاقتصاد إلى علم فني تقني يمارس لغة فصل السياسات الاقتصادية عن السياسة والمتغيرات السياسية والاجتماعية والسلوكية.
يرى الدكتور رسلان أنه من الناحية العلمية، يصعب فهم الظواهر والأزمات الاقتصادية دون فهم الدوافع السياسية والاجتماعية والسلوكية، وفهم الدوافع السلوكية للفاعلين (منتجين ومستهلكين) وعلاقتهم بعضهم بالبعض الآخر. وكيف يمكن للسياسيين التأثير في السياسات والتوجهات الاقتصادية، وكيف تتم صناعة السياسات والقوانين والقرارات والتشريعات الاقتصادية كأفعال سياسية.
ويعتقد الكاتب ـ بحق ـ أن الإفراط في استخدام النماذج القياسية والمعادلات الرياضية التي تبتعد عن الفكر والتحليل الاقتصادي، وتدخل علم الاقتصاد في متاهات النماذج القياسية والرياضية، عقّدت علم الاقتصاد بدل أن تجعله أكثر وضوحاً، وحولته قسرياً إلى علم فني تقني.
علماً أن د. رسلان لا ينفي أهمية الأدوات الاقتصادية الفنية ـ التقنية (أدوات السياستين المالية والنقدية ـ سعر الفائدة ـ سعر الصرف ـ التكاليف ـ الإنفاق الحكومي ـ عمليات السوق المفتوحة….) إلا أنه يرى أن هذه الأدوات وغيرها من الإجراءات، إنما هي (لإدارة المشكلة، وليس لعلاجها) لذلك استوطنت المشكلة واستمرّت على مدى العقود الأربعة الماضية، ولا تزال مستمرة.
تعمد د. رسلان أن يتناول مشكلة الركود التضخمي من زاوية الاقتصاد السياسي في الأمدين المتوسط والطويل، وليس فقط من الناحية الاقتصادية البحتة التي تعني بالأجل القصير، لهذا فهو يرى أن ثلاثة متغيرات (من وجهة نظر الاقتصاد السياسي) كانت وراء تفاقم مشكلة الركود التضخمي، وهي:
1 ـ التفاوت الحاد والصارخ في توزيع الثروات والدخول.
2 ـ سطوة وسيطرة الاحتكارات في الأسواق الخارجية والمحلية. وتراجع الأسواق التنافسية.
3 ـ انتشار ظاهرة الفساد وتحكمها في مفاصل الاقتصاد والمجتمع.
وهذه المتغيرات الثلاثة طابعها العام هو (سياسي ـ اجتماعي) قبل أن يكون أفعالاً اقتصادية.
فضلاً عن ظاهرتين عالميتين، لهما امتداد إقليمي ومحلي، وهما:
الأولى: تصاعد دور ونفوذ رأس المال المعولم والمحلي في العملية السياسية على المستوى العالمي والمحلي. وقد كان لهذا أثره السلبي على الطلب الكلي.
والظاهرة الثانية: تتمثل في التغير الحاصل في بنية رأس المال الدولي لصالح المضاربات (بالعملة والأوراق المالية والسلع).
وقد حصلت تحولات مهمة في استخدامات رأس المال النقدي في الاستثمار والتجارة على المدى البعيد. ففي حين كان 90% من المعاملات المالية الدولية عام 1971 مرتبطة بمعاملات الاقتصاد الحقيقي (الاستثمار والتجارة بالسلع والخدمات) أصبح 95% من هذه المعاملات المالية الدولية تنشط في مجالات المضاربات المالية. ومع انتشار المضاربات وسيطرة أصحاب الريوع المالية تراجع نمو الناتج المحلي الإجمالي مما قاد إلى المزيد من الركود.
ولا يكتفي الدكتور رسلان بطرح المشكلة بل إنه يخصص الفصل الرابع من الكتاب لبيان آليات معالجة الركود التضخمي. وهو إذ يلاحظ أن لا اتفاق بين الاقتصاديين على الأسباب الكامنة وراء هذه المشكلة فإنه يرى من الطبيعي أن لا يوجد اتفاق على آليات التعامل معها ومعالجتها.
ويرى د. رسلان أن الإجراءات والأدوات الاقتصادية البحتة، إنما هي عملية إدارية لمشكلة الركود التضخمي (أي أنها عملية إدارة المشكلة أكثر من معالجتها).
أما العلاج الذي يراه فهو: التكامل بين السياسات والإجراءات متوسطة وطويلة الأجل، ذات البعد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والإجراءات والسياسات الاقتصادية قصيرة الأجل ومتوسطة الأجل، ذات الطابع الاقتصادي الفني التقني.
إن مشكلة الركود التضخمي، هي مشكلة يجتمع فيها نقيضان: ارتفاع معدلات التضخم، وارتفاع معدلات البطالة معاً. وفي الوقت ذاته تتراجع معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي.
الحاجة هنا هي إلى آليات تؤثر في كل من التضخم والباطلة وتعمل على تخفيضهما معاً، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا من خلال التنسيق بين السياستين المالية والنقدية ذات الأجل القصير والمتوسط، إلى جانب معالجة الأسباب الجوهرية (السياسية والاجتماعية) من خلال سياسات متوسطة وطويلة الأجل.
إن الأخذ بهذه السياسة يتطلب تعزيز الثقة بالحكومة وإجراءاتها، وكذلك الثقة بالنظام المالي والاقتصادي، واتخاذ تدابير هيكلية تعزز قدرة ومناعة الاقتصاد الوطني لمواجهة الصدمات المختلفة.
ومن الشروط الموضوعية لمواجهة مشكلة الركود التضخمي:
أولاً_ انتهاج سياسة واضحة من شأنها الحد من مشكلة التفاوت في الدخول والثروات، والحد من تركز رأس المال وتركز الثروات. ولعل أهم مهام الدولة المعاصرة هو العمل على تحقيق العدالة والانصاف في توزيع الثروات والدخول والفرص والقدرات، بحيث يكسب الجميع من ثمار النمو والتنمية الاقتصادية.
وتلعب السياسة الضريبية دوراً هاماً في هذا الشأن، ومن المهم أن نشير هنا إلى وجوب عدم الاعتماد على الضرائب غير المباشرة، واعتماد الضرائب المباشرة على الأغنياء، مع استخدام أسلوب التوسع التصاعدي العادل للقاعدة الضريبية والحد من التهرب الضريبي.
كما يمكن تحسين عدالة التوزيع من خلال سياسات عامة تضمن المزيد من الإنصاف والعدالة في الحصول على الخدمات العامة (الصحة والتعليم) وكذلك الإنصاف في إتاحة الفرص. وأهمها فرص التعليم الجيد وفرص الخدمات والعناية الصحية وإمكانية وصول الفقراء إلى خدمات التعليم والصحة.
ويقول د. رسلان، إنه في معرض سعي الدولة إلى تحقيق النمو والتنمية الاقتصادية، فإن عليها القيام (بكفاءة عالية) بأربع مهام أساسية هي:
(1 ـ تحقيق سيادة القانون ـ 2 ـ تطوير البنية التحتية. 3 ـ الخدمات التعليمية. 4 ـ خدمات الرعاية الصحية).
هذا فضلاً عن مهام الأمن والدفاع.
إن الإنفاق على هذا المهام هو بمثابة إنفاق استهلاكي واستثماري فضلاً عن كونه مدخلات العملية الإنتاجية في الاقتصاد ككل. ورلا يجوز الاعتماد على السوق للقيام بهذه المهمات. وخاصة التعليم والصحة، لأن ذلك يعني المزيد من عدم الإنصاف وعدم المساواة.
ويرى المؤلف أن الحماية الاجتماعية، بأشكالها ومستوياتها المختلفة، كأحد المهام والواجبات الرئيسية للدولة، يمكن أن تُسهم في تحقيق النمو والتخفيف من حدة التفاوت في توزيع الدخول وتُسهم في تحقيق العدالة والإنصاف وإتاحة الفرص.
كما أنه يرى أن الدعم الذي تقدمه الدولة للمواطنين هو أحد قنوات إعادة التوزيع ويحد من الفقر والتفاوت في التوزيع.
ثانياً_ توسيع قاعدة الملكية المجتمعية، والتحكم عبر السياسات. وهنا يرى الدكتور رسلان أن شعار المرحلة هو:
أجور عادلة ـ أرباح عادلة ـ ضرائب عادلة.
وإن من شأن ذلك تحقيق توزيع أكثر عدالة لرأس المال، وبالتالي تتحقق العدالة الاجتماعية والإنصاف عبر سياسات الأجور والسياسات الضريبية والإنفاق الحكومي، كما أن هناك إمكانية لتوسيع قاعدة الملكية من خلال الشركات المساهمة، مما ينفي الحاجة إلى انتهاج سياسة التأميم.
ثالثاً_ الدور المتكامل للسياسة المالية والنقدية في إعادة التوزيع.
السياسة المالية تؤثر من خلال الضرائب والإنفاق العام، أما السياسة النقدية، فتؤثر من خلال القدرة على التحكم بمعدلات التضخم، ومن خلال عمق وشمولية الوصول إلى مصادر التمويل.
رابعاً_ هناك قنوات أخرى لإعادة التوزيع مثل:
ـ أصول الدولة: ينبغي البحث عن أصول الدولة وخاصة القادرة على توليد دخل وحصرها والتعامل معها.
ـ استخدام تكنولوجيا المستقبل (الذكاء الاصطناعي).
ـ دعم المشرعات الصغيرة والمتوسطة ودعمها عبر برامج التمويل الميسر.
ـ تفكيك الاحتكارات والحد من سلطتها.
ـ الحد من سطوة وهيمنة شبكات الفساد.
ينتقل الكاتب بعد ذلك إلى الحديث عن أدوات وإجراءات قصيرة ومتوسطة الأجل لإدارة مشكلة الركود ا التضخمي. ويقول بأن المعالجات هذه تنطلق من معالجة النتائج أكثر من معالجة الأسباب، وهي متعددة بتعدد المدارس الاقتصادية.
ينتقل د. رسلان بعد ذلك إلى مناقشة الآليات والإجراءات المتبعة في معالجة الركود التضخمي. كظاهرة مستوطنة ومزمنة في العديد من اقتصادات دول العالم، وبضمن ذلك الاقتصاد السوري، مشيراً إلى أن ذلك هو إدارة للمشكلة أكثر من كونه معالجة لها، مؤكداً أن معالجة المشكلة يتطلب معالجة أسبابها ذات الأبعاد السياسية والمؤسساتية والاجتماعية متوسطة وطويلة الأمد. وليس فقط أبعادها الاقتصادية بإجراءات اقتصادية بحتة ذات طابع فني تقني قصير ومتوسطة الأجل.
ويأتي هنا على بعض الحالات، متسائلاً في البداية عما إذا كان من الأفضل تقليص الإنفاق العام؟
يدعو البنك الدولي وصندوق النقد الدولي إلى تقليص حجم الدولة وتقليص الإنفاق الحكومي في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، (وهذا بند أساسي في وصفاته الإصلاحية).
ويرى د. رسلان، بحقّ، أن هذه الدعوة ليست بريئة، وليست نظيفة، وأدت إلى المزيد من الفقر والتفاوت في توزيع الثروات والدخول.
كما يرى أن الإنفاق الحكومي يجب أن يزداد لا أن يتقلص، وأنه من الأفضل أن تكون الزيادة في الإنفاق الحكومي في المجال الاستثماري، وليس فقط في المجال الاستهلاكي، مؤكداً أن تقليص الإنفاق الحكومي يؤدي إلى إطالة أمد الركود الاقتصادي، ولهذا يرى أن الأفضل الأخذ بأفكار المدرسة الكينزية.
ولهذا فإنه يرى أن توازن الموازنة يجب ألا يكون مقدساً، وليس كل عجز في الموازنة هو شيء سيّئ أو شر مطلق، بل قد يكون المخرج الأسرع في ظل أزمة الركود والكساد، وهنا يأتي دور السياسة المالية بالعمل على تحفيز الطلب الكلي.
ويشير الكاتب إلى نتائج السياسات النقدية الانكماشية، التي اتبعها مصرف سورية المركزي خلال سنوات الحرب، فقد أدت هذه السياسات إلى المزيد من الركود والمزيد من التضخم. بينما كان المصرف يهدف إلى الحد من التضخم، والحد من عمليات تحويل العملة الوطنية إلى الدولار. إلا أن هذه السياسة، لم تنجح في الحد من التضخم كما لم تنجح في وقف عمليات التحويل إلى الدولار.
ويرد د. رسلان على مَنْ ينادي باستقلالية المصرف المركزي: بأن هذه الاستقلالية يجب أن تكون مرتبطة بتنسيق السياستين المالية والنقدية، بمعنى أن تكون القرارات التي يتم اتخاذها من قبل صانعي القرارات في إحدى السياستين لا تؤثر سلباً على السياسة الأخرى. وأفضل صور التنسيق، كما يرى، هي اشتراك صانعي القرار (المصرف والحكومة) كسلطتين مستقلتين في كلتا السياستين بشكل مشترك في تحديد أهدافهما.
إن السياسة النقدية تتوجه إلى معالجة التضخم، في حين السياسة المالية تتوجه نحو مواجهة الركود الاقتصادي، وبما أن هناك تأثيراً متبادلاً ومتعارضاً بين السياستين المالية والنقدية. فإن على السياسة الاقتصادية الكلية أن تسعى إلى خلق التوازن الدقيق والتناغم بين السياستين لتحقيق الاستقرار، ويتبدى ذلك خاصة لدى معالجة موضوع عجز الموازنة.
وهنا يوضح د. رسلان مسألة استقلالية المصرف المركزي، بأنها لا تعني الاستقلالية والانفصال عن سياسة الحكومة، بل تعني، أن تكون قرارات المصرف المركزي المتعلقة بالسياسة النقدية مستقلة بعيدة عن التدخلات السياسية، وأن تكون هذه السياسة منسّقة مع السياسة الاقتصادية العامة للدولة. ويعني التنسيق ألا يكون هناك تضارب بين السياستين المالية والنقدية.
ويركز المؤلف على أهمية تطوير السوق المالية المحلية، لتستطيع توفير بدائل أخرى لتمويل العجز المالي والحد من الاقتراض الحكومي المباشر من المصرف المركزي، لناحية تمويل عجز الموازنة بأدوات غير تضخمية.
يختم الدكتور رسلان خضور بحثه بالتأكيد على أهمية الكفاءة والفعالية المؤسسية في معالجة الركود التضخمي. فالمؤسسات الاقتصادية والسياسية هي المحدد للأداء الاقتصادي. فلهذه المؤسسات دورٌ محوريّ في الأداء الاقتصادي، وفي الإنتاج والنمو وفي توزيع الدخل وإعادة توزيعه. ذلك أن المؤسسات الضعيفة لا تملك القدرة الكافية للمحافظة على حقوق المواطنين ومصالحهم في مواجهة سلطة السوق وسلطة رأس المال المعولم، وللمؤسسات دورٌ مهمّ في التنسيق والتكامل بين السياسات المالية والنقدية. وكلما كانت المؤسسات أفضل، كانت الأزمات الاقتصادية والهزّات أقلّ.
أخيراً… إذا كان لنا أن نقول في ختام هذا العرض، فإننا نقول إن الكاتب بذل جهداً واضحاً في تقديم جانب من هذا (العلم الكئيب) علم الاقتصاد بلغة سهلة واضحة مع المحافظة على المضمون العلمي، وهذه مهمة صعبة لا يحسنها إلا العلماء الراغبون في إيصال علمهم إلى أوسع شريحة من القراء، فرغم أنه يتوجه بكتابه إلى صناع السياسات الاقتصادية، فإنه أيضاً يمكن أن نقول إنه موجه للقارئ العادي المتشوق إلى تفسير ما يجري حوله.
[1] استخدم اى.راي كانتربري الاقتصادي الأمريكي تعبير (العلم الكئيب) في كتابه (موجز تاريخ علم الاقتصاد) ـ مقاربات جمالية لدراسة العلم الكئيب. صدرت ترجمته العربية عن المركز القومي للترجمة ـ القاهرة 2011.