عن الفراهيدي وابن المقفّع والجاحظ
عبد الرزاق دحنون:
في كتب التراث وعند الحديث عن الشخصيات العامة، تأتي عبارة: عقله أكبر من علمه. أي أنه مع علمه لديه عقل راجح يخدمه كثيراً، وقد يكون هذا العقل أكبر من الجانب المعرفي لديه. وفي بعض الأحيان يعبر عن أشخاص لديهم جانب كبير من العلم والمحفوظات والكتب لكن جانب العقل والتدبر والفهم أو قل الوعي المعرفي لديهم أقل من ذلك، فيقال: علمه أكبر من عقله. أي أنه لديه علم ومحفوظات، وقد يكون لديه مكتبة كبيرة لكن ليس هناك جانب عقلي يخدم العلم كما تحضر لديه المعلومات. قد يكون عقل الرجل أكبر من علمه، فلا يضرّه بل ينفعه، وقد يكون علمه أكبر من عقله فهذا يضرّه ولا ينفعه.
جاء في الأثر: كان الخليل بن أحمد الفراهيدي وعبد الله بن المقفع يحبان أن يجتمعا، فاتفق لقاؤهما، فاجتمعا ثلاثة أيام يتحاوران، فقيل لابن المقفع: كيف رأيته؟ فقال: وجدتُ رجلاً عقله زائد على علمه. وسئل الخليل بن أحمد عنه فقال: وجدتُ رجلاً علمه فوق عقله. قال بعض العلماء: صدقا فإن الخليل مات حتف أنفه في خصِّ وهو أزهد خلق الله، وتعاطى ابن المقفع ما كان مستغنياً عنه حتى قُتل أسوأ قتلة.
كان الفرن مشتعلاً، وقُيّد ابن المقفع إليه. توقف أمامه، فقال له سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب بن أبي صفرة: والله يا ابن الزنديقة لأحرقنّك بنار الدنيا قبل الآخرة، وذلك يعود إلى كون ابن المقفع كان يعامل والي البصرة بازدراء وسُخرية، فقد كان لسفيان أنف هائل الحجم، وعندما كان ابن المقفع يلتقيه يُحيّيه بقوله: السلام عليكما. كان يعتبر انفه شخصاً مستقلاً، ملصقاً بوجهه، لهذا تربّص به الوالي حتى جاء الوقت المناسب فألقاه في الفرن. هل السخرية تقتل صاحبها؟ نعم، أغلب الظن هذا ما فعلته مع عبد الله بن المقفع صاحب حكايات (كليلة ودمنة). ولكن كيف سنحت فرصة قتل ابن المقفع؟ وما خطيئته؟ هل افترض ابن المقفع أن الكلمة تملك خاصية سحريَّة وفي إمكانها تغيير العالم حتى سعى في خطوته الأولى لتغيير الذين يستطيعون التغيير، فأرسل لأبي جعفر المنصور، ثاني خلفاء الدولة العباسية، كتاباً صغير الحجم عظيم القيمة سمّاه (رسالة الصحابة) نصح فيه الخليفة حسن اختيار بطانته وحسن سياسة الرعية. سخط الخليفة مما جاء في الرسالة من جرأة تنال من هيبة وقداسة الخليفة وحاشيته، فأعطى الضوء الأخضر، كما نقول في عصرنا الحديث هذا، لعامله في البصرة بوضع ابن المقفع في الفرن. وكان سفيان بن معاوية ينتظر تلك الفرصة التي جاءت تسعى على قدميها، فوضع ابن المقفع في الفرن عقاباً له على سُخريته من الوالي.
بعد أن قُتل عبد الله بن المقفع حرقاً بنحو عقدين من الزمن أي في عام 159 هجرية ولد في مدينة البصرة أحد أعظم الساخرين في التراث الإسلامي عمرو بن بحر، الملقَّب بالجاحظ، والمكنى بأبي عثمان. ترك الجاحظ أكثر من مئة وسبعين كتاباً. وساعده على كثرة التأليف امتداد عمره، وانصراف الحُكَّام وأهل الدولة عن استخدامه في قصورهم ودواوينهم لدمامة وجهه، ومرضه الطويل الذي اضطره إلى ملازمة بيته وقطع فراغه بالكتابة والتأليف. ومازال في علّته إلى أن وقعت عليه مجلدات العلم فقضت عليه في البصرة نهاية سنة 255 هجرية. يقول الأستاذ أحمد أمين: نجا الجاحظ لأنه مرن. وقد دفع عنه الشر بمرونته.
من لا يعرف هذا الرجل، الذي كان يكتري دكاكين الورّاقين ويبات فيها محتضناً الكتب والصحائف. سخر من كل شيء ـ حتى من نفسه وغرابة شكله في نظر الآخرين ـ حتى أن امرأة أخذت بيده واقتادته إلى صائغ في سوق الصاغة ثم قالت لصاحب المحل: ارسم على خاتمي هذا الوجه. قال الصائغ: لم أفهم؟ قالت: هذا هو الشيطان الذي طلبت منك نقشه على خاتمي. من روى الحادثة كان الجاحظ، ولا أحد يقدر على السخرية من نفسه غير الجاحظ. هل رأيتم أحداً سواه يستبق الجميع إلى السخرية من نفسه، ويجعلها هدفاً ومرمى في خضم لعبة أدبية آسرة؟
في كتاب البخلاء يقول شيخنا الجليل: من قصص أهل خراسان، لم أرَ ديك الدجاج في بلدة قط إلا وهو لافظ، يأخذ الحبة بمنقاره، ثم يلفظها قدام الدجاجة، إلا ديكة مرو، فإني رأيتها، تسلب الدجاج ما في مناقيرها من الحب. فعلمت أن بخلهم شيء في طبع البلاد وفي جواهر الماء، فمن ثم عمّ جميع حيوانهم.
ومن أعاجيب أهل مرو ما قرأناه عن شيخنا، فقد قال: إن رجلاً من أهل مرو كان ولا يزال يحجّ ويتّجر، وينزل على رجل من أهل العراق، فيكرمه ويكفيه مؤونته. ثم كان كثيراً ما يقول لذلك العراقي: ليت إني قد رأيتك بمرو، حتى أكافئك، لقديم إحسانك، وما تجدّد لي من البرّ في كل مرّة. فأمّا ههنا فقد أغناك الله عني.
قال: فعرضت لذلك العراقي، بعد دهر طويل، حاجة في تلك الناحية؛ فكان مما هوّن عليه مكابدة السفر، ووحشة الاغتراب، مكان المروزيّ هناك. فلمّا قدم مضى نحوه في ثياب سفره، وفي عمامته وقلنسوته وكسائه، ليحطّ رحله عنده، كما يصنع الرجل بثقته، وموضع أنسه. فلما وجده قاعداً في أصحابه، أكبّ عليه وعانقه، فلم يره أثبته، ولا سأل عنه سؤال من رآه قط. قال العراقي في نفسه: لعل إنكاره إيّاي لمكان القناع؛ فرمى بقناعه، وابتدأ مساءلته، فكان له أنكر. فقال: لعله أن يكون إنما أتي من قبل العمامة؛ فنزعها، وجدد مساءلته، فوجده أشدّ ما كان له إنكاراً. قال: فلعله إنما أتي من قبل القلنسوة؛ وعلم المروزي أنه لم يبقَ شيء يتعلق به المتغافل والمتجاهل، فقال: لو خرجت من جلدك ما عرفتك!