د. منير الحمش.. والطريق الرابع للتنمية
بشار المنيّر:
سألت معلّمي وصديقي د. منير الحمش، قبيل إلقاء بحثه عن (الطريق الرابع للتنمية والإعمار):
– لماذا طريق رابع؟ هل استنفدت الطرق الثلاثة فرصها لإحداث التنمية في بلادنا؟ ألم يتدخل العامل السياسي لكبح كلّ طريق من هذه الطرق؟ هل فشلت تجارب التنمية منذ الاستقلال اعتماداً على الطرق الثلاثة، كي نقترح طريقاً رابعاً؟
كنت أفضّل، يا معلّمي، أن تستمرّ في التحريض على فكرتك التي وضعتها منذ سنين، وهي التنمية بالاعتماد على الذات، وليس (الطريق الرابع)!
فأجابني بهدوئه المعتاد: نعم، إنها الفكرة ذاتها، وقد أسميتها (الطريق الرابع).
وهكذا قدّم د. منير الحمش رؤيته للتنمية والإعمار في القاعة الرئيسية لمكتبة الأسد صبيحة الاثنين 2/9/2024، بدعوة من جمعية العلوم الاقتصادية.
إنه الطريق الرابع الذي يقوم على المزاوجة بين آليات السوق وآليات التخطيط، بهدف رفع المستوى المادي والثقافي للمواطنين وتحسين أوضاعهم المعيشية، وأن يكون لهم دورٌ رئيسي في عملية التنمية، لذا لا بد من أن يطرح هذا النموذج برنامجاً يحقق مكافحة الفقر والقضاء على فروقات الدخل والثروة، ومعالجة البطالة والجهل، وتحقيق النمو الاقتصادي المطرد الذي يترافق مع عدالة التوزيع، وبالتالي تحقيق العدالة الاجتماعية.
ويوكد الحمش أن نجاح هذه التوجهات يتطلب من الإدارة الاقتصادية أن تمتلك البوصلة الوطنية في إدارة العلاقات الاقتصادية وضبطها مع العالم الخارجي، من خلال توفير الحد الأدنى من قوى الدفع الذاتي، وتوافر قدر كبير من الاعتماد الجماعي على الذات، وتنمية القدرة على مقاومة الصدمات الخارجية، وتركيز الجهود للارتقاء بجودة الصناعات الوطنية وزيادة قدرتها التنافسية، وتطوير القدرات التكنولوجية الذاتية، ولا بدّ من تدخّل الدولة بدرجات متفاوتة، وذلك لدواعٍ أهمّها أن السوق غير قادر على سد الفجوات الكبيرة والمزمنة بين العرض والطلب، والأفراد غير قادرين على حل المشكلات الكبيرة بمفردهم، مثل الفقر والبطالة.
ويقول المحاضر: (إن الاقتصاد السوري عانى من صعوبات حادة في مطلع الألفية الثانية، إذ أخفق في تحقيق أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وشمل التراجع معظم المؤشرات الاقتصادية، إضافة إلى ازدياد الضغوط الخارجية من جانب الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي، وقد أصبحت قضية الإصلاح موضوعاً ملحّاً نتيجة هذا الواقع وما يضاف إليه من ظروف داخلية أيضاً).
وتابع: إن التوجه نحو اقتصاد السوق والليبرالية الاقتصادية قبل الأزمة ومحاولة الغزو الإرهابي عام 2011، أدى إلى إحداث تحولات في الهياكل الإنتاجية نجمت عنها اختلالات هيكلية، تعمقت خلال الأحداث وحتى الآن، بسبب الاضطراب والفوضى اللذين حصلا في السياسات الاقتصادية والاجتماعية. كما أنها خلقت ظروفاً جديدة في العملية الاقتصادية، تتمثل الآن على سبيل المثال في قوة العمل، مما يظهر الحاجة إلى استيعاب البطالة التراكمية، فضلاً عن الأنواع الجديدة من العاطلين، وخاصة المنخرطين على نحو ما في أعمال هامشية، وأولئك الذين انخرطوا في الفصائل الإرهابية، ما أعاق عملية التنمية.
بعد دراسة التجارب التنموية في أغلب بلدان العالم الثالث، يرى الحمش أنها أثبتت أن التنمية المستقلة هي الطريق السليم للوصول إلى تنمية حقيقية، والاستقلالية في الطريق الرابع لا تعني الانكفاء والانعزال، إنما تعني توفير قدر أكبر من حرية الفعل للإرادة الوطنية، في مواجهة عوامل الضغط التي يفرزها النظام الرأسمالي العالمي، كما أثبتت التجارب التنموية في تلك البلدان أن السوق، بما فيه من قوانين وآليات ومبادرات فردية، لا يستطيع وحده تحقيق التنمية، كما أن التخطيط المركزي المستند إلى الدولة ومؤسساتها وقوانينها وآلياتها ، لا يستطيع وحده أن يحقق التنمية أيضاً، لذا فإن المطلوب إيجاد نوع من التنسيق والتزاوج بين السوق وآلياته والدولة ومؤسساتها، من أجل الخروج بنظام يستطيع أن يحشد كل الموارد البشرية والمادية للبلاد، ويوجهها نحو تنفيذ برنامج تنموي شامل ومتوازن ومستدام، يُمكّن الاقتصاد من تحقيق النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية معاً.
ويرى د. الحمش، أنه يمكن النظر في بعض العناوين لدى وضع الاستراتيجية الصناعية الجديدة، ومنها إعادة النظر في تموضع المنشآت الصناعية جغرافياً، والتركيز على ربط الصناعة بالإنتاج الزراعي (بشقّيه النباتي والحيواني)، والتركيز على استخدام المواد المحلية الأولية، وتوطين التكنولوجيا المتطورة، والتوازن بين الصناعات التي تحتاج إلى رأسمال كبير، وتلك التي تحتاج إلى عمالة كثيفة، والتوجه نحو إنتاج وسائل الإنتاج، إضافة إلى الاهتمام بالصناعات التصديرية.
على أن يركز القطاع العام على المشروعات الكبرى كمشاريع البنية التحتية والمشروعات الإنتاجية الكبيرة، فتلك المشروعات لها تماس مباشرة بالأمن القومي، ولا يجوز إعطاء أي فرصة لينفذ الأجنبي إليها.
وأوضح د. الحمش وجود صعوبات كبيرة تواجه الطريق الرابع وهي متوقعة لكونه يهدّد مصالح بعض القوى في الداخل والخارج، وأهمّها بزوغ دور قوى الرأسمالية والليبرالية الجديدة العالمية وتنامي نفوذ ممثلي هذه القوى في الداخل، من رجال الأعمال وأصحاب الثروات الجدد وبضمنهم السماسرة والوسطاء وممثلو الشركات العملاقة المتعددة الجنسية، متابعاً: (شروط نجاح النموذج أولها شرط تعميم ثقافة التنمية، وثانيها إدراك حجم الصعوبات التي ستواجه هذا النموذج والاستعداد لمواجهتها، وبالتالي تحمل تكلفتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وخاصة أنه يفرض شيئاً من التقشف، ويحارب الهدر والإسراف والمظاهر السطحية، ويوقف أو يحد من استيراد السلع الترفيهية، أما الشرط الثالث فيتمثل بإعادة تركيب الإدارة الاقتصادية وإقامتها على أسس جديدة تعكس التحالف الاجتماعي السياسي الذي يؤيد توجهات الطريق، ويضاف إلى ذلك شرط تحقيق المشاركة الشعبية الواسعة، التي تعد أحد مكونات الطريق الرابع، والاستعداد لمواجهة الممارسات والضغوط التي سوف يقوم بها من ستتضرر مصالحهم.
أخيراً، نعتقد أن الطرق الثلاثة، كانت تفتقد إلى أهمّ مطلب لتحقيق الهدف، وهو توفر إرادة تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة والمستدامة، وطريق الدكتور منير الحمش الرابع سيعاني المصير ذاته إذا لم تتوفر هذه الإرادة، وهنا نحيل الأمر للقيادة السياسية، ونقترح في حال توفر النوايا الجدية لتحقيق التنمية، تنظيم حوار اقتصادي موسّع، يضم خبراء الاقتصاد السوري، لوضع خطة مركزية تساهم في وضعها وتنفيذها الحكومة بأدواتها الصناعية والإنشائية والمالية، والقطاع الخاص المنتج والرساميل الوطنية، ويمكن اللجوء عند اللزوم إلى مساعدات الدول الصديقة.