إمبراطورية العار

د. نهلة الخطيب:

الحرب الاستباقية التي تشنها إسرائيل على الشعب الفلسطيني إلى ما لا نهاية، ودونما حدود، وعدوانيتهم الدائمة وتعسفهم وعنفهم البنيوي متواصل دون رادع، فاليوم قد انهارت معظم حواجز القانون الدولي، فجرائم الحرب التي يمارسها الكيان الإسرائيلي أمام أنظار العالم وبصمتٍ عربي، تجد الحماية والتشجيع من إمبراطورية العار، تُسقط كل الادعاءات الأخلاقية والقانون الدولي الانساني الذي بات يحتضر وهو عاجز عن أداء وظيفته بغزة. والأمم المتحدة نفسها باتت في منتهى الضعف وباتت لا حياة لها، ويوماً بعد يوم تفشل بمهامها في تحقيق السلم والأمن الدوليين، اجتاحت الأرض ما يقارب أربعين حرباً في العقدين الماضيين، لم تحل الأمم المتحدة أي منها، وباتت تقصر عملياتها على نشاطات توزيع الأغذية والمساعدات الانسانية للفقراء، مكافحة الأوبئة، وها نحن أولاء نشهد ولادة وباء جديد (جدري القردة) ربما يكون مبرراً لوجودها، عجز مجلس الأمن عن إيقاف الحرب الروسية الأوكرانية منذ اندلاعها عام 2022، والآن يفشل في فرض هدنة إنسانية ووقف الحرب على غزة، مما يؤكد أن الشعوب الضعيفة تدفع الثمن عند اختلال توازن القوى والصراع على مستقبل النظام الدولي.

في الحرب الروسية الأوكرانية تفاقمت الصراعات والتوترات الجيوسياسية في العالم وبدت التكتلات بالظهور وأصبح الاستقطاب الدولي واضحاً، ومع انطلاق الحرب ضد غزة تعززت التكتلات والانقسامات السياسية، سباق تسلح يتسارع، وصراع اقتصادي، فكل قوة دولية تسعى إلى دعم حلفائها في مواجهة المعسكر الند، فهناك معسكران غربي وشرقي، بأبعاد ليست سياسية واقتصادية فقط وإنما عسكرية أيضاً ربما ينتهي يوماً ما في ميادين الحروب الساخنة، الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها تدعم إسرائيل ظالمة أو مظلومة فهي شريك استراتيجي، وفي مقابلها تحالف روسي صيني، لم يجاهر في التحيز لأي طرف إلى الآن، يمكنه أن يؤثر على القطبية الأمريكية المنفردة بمقدرات العالم.

وقد باتت نظرية كسينجر الإمبريالية وهي الإيديولوجيا المسيطرة في الولايات المتحدة الأمريكية، تتلخص بأن (الدبلوماسية المتعددة الأطراف لا تحدث سوى الفوضى وأن الاحترام الصارم لحق الشعوب في تقرير مصيرها وسيادة الدول، لا يمكّن من ضمان السلام، وأن قوة كونية تملك الوسائل المادية والقدرة على التدخل السريع في كل مكان في زمن الأزمات، هي وحدها تستطيع أن تفرض السلام). أمريكا التي تستخدم القيم للهيمنة بحاجة إلى تثبيت تموضعها القطبي، ووضع حد لتطلعات الدول الراغبة في مشاركتها قيادة العالم، ولكن النظام العالمي لم يعد يجدي معه الترميم نفعاً، وأصبح بحاجة إلى هدم وإعادة بناء جديدة تتناسب وعملية التحول الدولي.

تعيش منطقة الشرق الأوسط على صفيح ساخن وأقرب للانفجار، إذ تتوعد إيران، (المرشحة لدخول النادي النووي قريباً)، إسرائيل بردٍّ انتقاميّ على اغتيال اسماعيل هنية، وهو تطور سيكون له تداعيات خطيرة، والتحدي الإيراني لحرية الملاحة في البحر الأحمر يمثل تحدياً خطيراً لمصالح دولية حيوية، فهناك شبه اغلاق للمعابر البحرية كباب المندب ومضيق هرمز، والتهديد بضرب المنابع النفطية ومحطات استخراج الغاز الإسرائيلية التي ستقطع الغاز عن إسرائيل ومصر والأردن، مما يهدد بوقف إمداد أوربا بالغاز، وهي تعاني من مشكلة انتهاء عقد توريد الغاز من روسيا الشهر القادم ونحن على أبواب الشتاء، إذاً أوربا ستصبح بلا طاقة، وواشنطن المنخرطة في الحرب على غزة، ما تزال تحشد المزيد من الجيوش والدفاعات الصاروخية وحاملات الطائرات في الشرق الأوسط براً وبحراً وجواً، (للسيطرة على منابع الطاقة، وحماية إسرائيل)، بانتظار الرد، لإضعاف إيران وتقليم تمددها في المنطقة، وتحييدها عن روسيا والصين بالقوة، أو بالاتفاق بتسوية دولية بالتزامن مع الهجوم الأوكراني وتوغّله في الأراضي الروسية في كورسك، والا سيتطور التهديد لاستخدام اليورانيوم والقنابل الذرية وضرب المفاعلات النووية، واعادة المنطقة إلى العصر الحجري. الحكاية أكبر من غزة، إنها حرب الطاقة.

حالياً القضية الأكثر حسماً للجميع هو وقف إطلاق النار ثم إنهاء الحرب على غزة لامتصاص الرد الإيراني، وخوفاً من طول أمد الحرب، قد يشعل صراعاً أوسع، يتعارض مع المصالح الأمريكية والغربية، ولكنها عديمة الجدوى ولا أهمية لها بالنسبة لنتنياهو، نتنياهو يضع المنطقة على حافة الخطر لن تنجو منها الا بموافقته على وقف الحرب على غزة، ولكن الحرب الإقليمية التي خطط لها ستذهب حتى النهاية وباتت على مشارفها، فالضربة كانت شديدة على إيران ومن الصعب التراجع عن الرد، وهي تدرك عمق المأزق، فالخياران أمامها، بالرد وعدمه وكلاهما مر، أمريكا تحشد للرد وليس لإشعال حرب كبرى، حرب على مقاسها ولكنها مغامرة خطيرة، فإيران قوة لا يستهان بها ولا أحد يعلم حجم التعاون مع روسيا والصين، روسيا تراقب التصعيد في المنطقة والعدوان على غزة بحذر، انتقدت أمريكا وحلفاءها على طريقة معالجة الأزمة وسياسة ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين وفشل إدارة الصراع العربي الإسرائيلي واحتكاره منذ سنوات. إلى الآن الدور الروسي مقتصر على التصريحات وقد يكون هناك تحول في طبيعته عند توسع الحرب في المنطقة بمشاركة أمريكا وحلفائها، ستجد روسيا نفسها جزءاً منه ومضطرة للتدخل مع الصين (التي رفضت أي قرار أممي لا ينص على هدنة إنسانية، ووقف الحرب)، نصرة لحلفائها.

محمود عباس عراب أوسلو، الذي خسر رهانه على الدور الأمريكي في تحقيق حلم الفلسطينيين بقيام دولتهم، يخرج من العباءة الأمريكية يجر ذيول الخيبة، وخاصة مع احتمال عودة ترامب وإحياء صفقة القرن، متوجهاً إلى المعسكر الند بزيارة  إلى موسكو، عباس يرى في روسيا قوة دولية بإمكانها التأثير في معادلات الصراع والسلام العالمي، ولعب دور الوسيط في عملية تسوية لحل الأزمة لما تتمتع فيه من علاقات متوازنة مع الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، وهذا ما ترفضه إسرائيل حتى لا يتم تحييد الولايات المتحدة الأمريكية وخروج ملف الصراع الفلسطيني الاسرائيلي من الرعاية الأمريكية الغربية. فهل هذا يؤدي إلى موازنة حالة الدعم الأمريكي الأوربي اللامحدود لإسرائيل دولياً من جهة وعسكرياً واستخباراتياً من جهة أخرى؟

عباس والقيادة الفلسطينية سيذهبون إلى غزة، كيف ومتى لا ندري! هي زيارة للدعم الإنساني ووقف العدوان الهمجي كما يقول، أو ربما لملء الفراغ السياسي، هذه المرة الأولى التي يدلي عباس بهذا التصريح منذ بداية الحرب المدمرة التي تشنها إسرائيل على غزة، خطاب عباس في البرلمان التركي يأتي رداً على خطاب نتنياهو في الكونغرس، تصفيق حار هنا قابله تصفيق حار هناك، وشتان بين الحالتين، طلب من الدول العربية والاسلامية ومجلس الأمن المساعدة في تأمين زيارته لغزة ومشاركة الأمين العام في الواجب الانساني لوقف العدوان ونزع ذرائع الاحتلال، كالمستجير من الرمضاء بالنار، يا لضعفنا!

العدد 1120 - 21/8/2024