وداعاً ياسر جرادي.. أيّها الفنان المناضل الثوري اليساري الرائع!
أيمن أبو الشعر:
رحل عن عالمنا قبل أيام الفنان التونسي الثوري اليساري المناضل ياسر جرّادي، الفنان الملتزم بقضايا الكادحين والفقراء والناس البسطاء والمهمشين، الفنان المندفع لتحريض الناس بفنّه الراقي، لكي يساهموا في تحرير مجتمعهم، وبناء عالم أفضل، وقد نعته وزارة الثقافة ونقابة المهن الموسيقية التونسية كفنان مبدع يساري متميز.
والفنان ياسر من مواليد عام 1970 من ولاية قابس، رافق النهوض الجماهيري بأغانيه الثورية اليسارية حتى لقِّب بمُغني الثورة. ومن الأمور التي تميّز هذا الفنان أنه يشكل وحده فرقة موسيقية، فهو يعزف على غيتاره ويغني، وبين الفواصل ينفخ في الهارومونيكا بعد أن ابتكر حمّالةً لها بحيث تلتصق بفمه، وهو يتابع العزف على الغيتار، والناس في تونس بمختلف فئاتها وخاصة التقدميين يرددون أغانيه بشغف، إذ كان قد ألف عام 2005 فرقته الخاصة (ديما ديما) قدم خلالها الكثير من الأغاني الوطنية الثورية النضالية اليسارية الشعبية، والمقصود بديما ديما: (دائماً دائماً).
كان ياسر جرّادي من البصمات الرائعة التي حفرتها تونس في وجداني إبان زيارتي لها، وقد كانت الزيارة غنية جداً بكل أنواع العطاءات الوجدانية عبر تفاعل الجمهور المثقف الرائع المحب للشعر حتى أعماق روحه، واغتنيت روحياً بالدرجة الأولى بتلك الصداقات الوليدة مع العديد من المبدعين والصحفيين والفنيين وفي مقدمتهم الفنان اليساري الثوري الرائع ياسر جرادي.
عرفت ياسر جرّادي عن قرب في عدد من اللقاءات والحوارات المميزة، ولفت نظري أنه متعدد المواهب حقاً في الغناء والموسيقا والمسرح، وكذلك في الفن التشكيلي عبر نمط خاص له في صياغة الحرف العربي، وقد حرص على رسم لوحة بتشكيل خاص من أحد أشهر أبيات قصيدتي رسائل عشق إلى دمشق: (إن كان هذا الكون قبلة عاشق فالشام عند العاشقين شفاه)، وهو البيت الذي ضمنه الفنان الكبير محمد غنوم إحدى لوحاته الضخمة في ثلاثية شام على ما أعتقد، ثم انطلق النحات المبدع علي فخور في تمثاله شام من البيت الشعري نفسه، وهو الذي غنته المطربة لانا هابراسو من ألحان الفنان معن دوارة، إذاً لم يكن صدفة أن تتلاقى أذواق المبدعين الذين لا يعرفون بعضهم بعضاً ومن مجالات فنية مختلفة حول عمل شعري محدد نقله الفنان التشكيلي والمغني ياسر الجرادي في لوحة جميلة سلمني إياها في أول لقاء لنا في تونس، وهي من الورق المقوى ذو اللون الكموني تقارب أبعادها 60* 60.
ولن أنسى ما حييت هذا الفرح الطفولي الذي قابلني به، حين ناقشنا إمكانية أن يلحن ويغني قصيدتي الجديدة (الشعب)، التي كتبتها ولحنتها متأثراً بأصداء وشعارات مظاهرة ضخمة مرت قرب الفندق الذي كنت أنزل فيه في تونس، وكان ينتظر أن أرسل له توزيع لحنها ليأخذ ذلك بعين الاعتبار أثناء تلحينها، مؤكداً أن أي عمل فني يمكن أن يلحنه أكثر من فنان، كما لحن قصيدة محمود درويش (أحن إلى خبز أمي) كل من مارسيل خليفة وأحمد قعبور، بالمناسبة كان ياسر جرّادي من المعجبين جداً بتجربة محمود درويش، وصاغ جدارية ضخمة بمساحة 24 متراً مربعاً لنتاجاته وبعض صوره.
شارك الفنان ياسر جرّادي في أمسيتي في تونس، وقد أدّى عدداً من أغانيه الجميلة، ونتيجة تواضعه كفنان كبير أدى كذلك أغنية شائعة جدا في تونس، وهي من ألحان الشاذلي الخمسي، ومن كلمات الشاعر المبدع آدم فتحي الذي للأسف لم تسعدني الفرصة باللقاء معه إذ كان لديه برنامج نشاطات إبداعية في مدينة بعيدة، لكننا تحدثنا هاتفيا بشكل جميل، وكان ياسر رفيقي آنذاك، وفي بعض المشاوير النوعية، والجلسات الرائعة مع عدد من المبدعين وخاصة الشاعر عادل معيزي والإعلامي الدكتور وليد ميجري والشاعر أحمد شاكر وغيرهم ممن لم أعد أذكر أسماءهم، لكنهم حاضرون في ذهني بمودتهم، خاصة أنهم كانوا يتعاملون مع الفنان ياسر وكأنه ملاك من السماء لمدى نقائه والتزامه بالجماهير المسحوقة والبيئة الشعبية النقية، والمسحوقين في الأرض.
حتى رحيل الفنان ياسر كانت له خصوصيته المميزة، فقد كان في جولة فنية يمارس نضاله المعتاد عبر فنه الراقي الثوري للمشاركة في مهرجان قابس الفني الدولي في ولاية المنستير، وأصيب بوعكة صحية دفعته لتأجيل عروضه لثلاثة أيام، لكن الوعكة اشتدت ولم يصح منها، ما دفع برئاسة المهرجان إلى إصدار بيان أعلنت فيه تأجيل جميع عروض هذه الدورة من المهرجان إلى موعد آخر سيعلن عنه لاحقاً، وذلك بسبب وفاة الفنان ياسر جرّادي.
أريد أن أقول إن معظم الذين التقيتهم في تونس، بل أستطيع أن أقول دون مبالغة جميعهم هم من المبدعين الرائعين والملتزمين الأنقياء بقضايا الإنسان والمستقبل الأفضل، وأذكر تماماً حتى رنة صوت الفنان ياسر، وهو يؤكد لي أن نهاية قصيدتي التشاركية (الشعب) التي تختتم بترداد الجمهور (وطن حر وشعب سعيد) هو شعار منتشر لدى جميع القوى التقدمية في تونس منذ عشرات السنين.
رحلت أيها الفنان اليساري الملتزم بقضايا الكادحين جسداً، لكن فنك سيبقى مشعلا في دروبنا، وزيتا في قنديلنا نحو شمس لا تغيب. وأنا إكراماً لذكراك سأقدم قصيدة- أغنية (الشعب) التشاركية، التي سيؤديها الفنان الملحن المبدع معن دوارة في احتفالات الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي السوري وفي أمسيتي في 7 تشرين الثاني هديةً لروحك الطاهرة وذكراك الرمز، وأعتبر أنك أنت الذي لحنتها كما كنت تودّ.
وإليكم رابط التسجيل الذي وصلني لإحدى الأغاني التي أدى مقاطع منها في أمسيتي في مدينة تونس في أيار (مايو) الفائت، وهذه هي كلمات المقطعين:
إن شخت كالجذع يوماً وغادرتني الطيور
فقد مشيت طريقي ولم تعقني الصخور
سيملؤون السلال ليرحلوا بالقليل
وأكتفي بالقليل لأصنع المستحيل