نجاح في الفشل
د. أحمد ديركي:
يبحث الإنسان عن سبل تحقيق أهدافه، عندما يبلغ من مراحل الوعي ما يكفي لرسم أهدافه في الحياة. ويعمل جاهداً للوصول إلى الهدف المنشود. أهداف تتشكل من طبيعة البنية الاجتماعية التي يعيش بها، إضافة إلى ما أكتسبه خلال مراحل نموه العقلي من معرفة قد لا تمتّ إلى بيئته الاجتماعية، وقد تمتّ إليها بصلة ما. فبصفةٍ عامة، المعرفة متنوعة ومتعددة المصادر والمنابع، لذا قد تكون مختلفة إلى هذا الحد أو ذاك عن بيئة الإنسان ومحيطة الاجتماعي. لكن مجموع هذه المعطيات تلعب دور حاسماً في رسم الهدف المنشود.
يصاب صاحب الهدف بالحياة بالإحباط عندما يواجه عقبات في مسيرة تحقيق هدفه، أو أهدافه الفرعية، الساعي لتحقيقها. والإحباط ذو حدّين، الحد الأول: محفز على مزيد من العمل من أجل تحقيق الهدف. وهو عمل تقييمي نقدي لمعرفة العقبات التي تواجهه ومحاولة تخطيها قدر المستطاع، أو تجنب ارتكاب الأخطاء مرة أخرى. الحد الثاني: إحباط يصيب صاحب الهدف يؤدي به إلى الانكفاء واليأس والتخلي عن الهدف، ويتحول صاحب الهدف إلى مجرد كائن حي يسير وفق معطيات ما يسيره من دون أي نوع من المقاومة أو الطموح لتحقيق هدف ما.
الأمر عينه ينطبق على سياسات الدول، فهناك دول مستسلمة منهزمة لا تعرف الإقرار بهزائمها وضعفها وتسير وفق قرارات دول أخرى. فتصبح مجرد أدوات لتلك الدول المقررة، وما على هذه الدول إلا التنفيذ. وهناك دول دائمة السعي إلى تحقيق أهدافها مهما كانت طبيعة العقبات التي تواجهها. فتارةً تحقّق بعض أهدافها وتارةً تخفق. وهذا أمر طبيعي، فالنجاح ليس دوماً بالأمر اليسير التحقّق.
لكن ما هو غريب محاولة تحقيق الفشل في الهدف، وتبيان هذا الفشل على أنه تحقيق الهدف والتفشخر بالنجاح الفاشل! نعم، تفشخر، والتفشخر بالعامية تعني ادّعاء الفخر من دون وجوده، بأن الهدف قد تحقّق، بينما في الحقيقة فشل تحقيق الهدف.
ومن أهم لاعبي هذا التفشخر: الكيان الصهيوني. كيان بقوة ودعم غيره احتلّ فلسطين، كيان بقوة ودعم غيره يقضم أرض فلسطين ويوسع احتلاله بها، كيان بقوة ودعم غيره احتل جزءاً من أراضي الدول العربية المحيطة به، كيان بقوة ودعم غيره أدخل دولاً عربية ضمن فلكه، وما هذه الدول إلّا من طبيعة الدول الأداواتية المنفذة لقرارات دول أخرى. أي أنها دول لا قرار لها سوى على المستوى الداخلي فيما يتعلق بشؤون شعبها الإدارية والقمعية لا أكثر. وكلما كثر تعداد دول كهذه في المنطقة كثر دعم هذا الكيان الصهيوني الذي لا وجود له إلا بقوة ودعم غيره.
وها نحن أولاء اليوم نقترب من نهاية عام على شن عدوانه الوحشي على غزة. عدوان حيواني يفترس من خلاله البشر والحجر بأسلحة فتاكة من صنع غيره ويدفع ثمنها غيره. فهي من صنع دول الداعمة له ويدفع ثمنها الدولُ الداعمة له، وبخاصة تلك الدول المطبعة معه أو الداعمة له بطريقة غير مباشرة.
قرابة عام ولم يتحقق الهدف. الكيان الصهيوني بكل دعم وقوة غيره وأساطيل العالم وأموال النفط وتكنولوجية أوربا وأمريكا ولم يستطع تحقيق أهدافه أمام مقاومة لا تملك ما يوازي أقل من ربع ربع ما يملك، ولا تملك دعماً يساوي ربع ربع ما يملك على المستوى العالمي.
فهل يحق المقارنة بين الطرفين؟
نعم، المقارنة محقّة لأنها تظهر أموراً غير مرئية. يفشل الكيان الصهيوني وداعموه والقوى التي يتلقاها منهم في تحقيق أي هدف من أهدافه، فيعمل بمساعدة غيره ودعمه وقوته على تصوير هذا الفشل على أنه نجاح. وللأسف يصدقه من لا يملكون ما يكفي من العقول البشرية وهم كثر، من الأنظمة السياسية والبشر أتباع هذه الأنظمة، سواء كانوا مواطنين أو رعاة في هذه الأنظمة أو لا. فقد فشل الكيان الصهيوني بتحويل فلسطين، منذ احتلالها ولغاية اليوم، إلى ما يهدف إليه. وها هو ذا اليوم يفشل مجدداً في تحقيق أهدافه.
بينما نجحت المقاومة الفلسطينية منذ تشكلها للدفاع عن أرض فلسطين، ومن يدعمها بكل ما يستطيع، في إبقاء فلسطين قضيةً حيّة في عقول كل أحرار العالم لا عبيده.
فالكيان الصهيوني وداعموه ينجحون في الفشل، ويعبرون عن فشلهم بلغة النجاح، والمقاومة الفلسطينية تنجح في تحقيق أهدافها وتعبر بلغة النجاح عما تحققه.
هنا الفراق الأساسي بين لغة محتل غاصب لأرض فلسطين، يعيش ويبقى بدعمٍ ومساعدة وقوة من غيره لأنه لا حقّ له بالوجود، ومقاومة تملك الحق في الوجود وتعيش وتبقى وتقاوم بقوتها الذاتية وكل ما يأتيها من خارجها يضاف إلى قوتها الذاتية. دعم خارجي لقضية محقّة لذا يدعمها أحرار العالم فدعم القضية الفلسطينية ومقاومتها بكل أشكال المقاومة رمز لدعم تحرر العالم، وكل دعم للكيان الصهيوني بأية وسيلة كانت يمثل دعماً لعبودية العالم.