إبادة مدفوعة التكاليف

د. أحمد ديركي:

يمثل النضال إحدى وسائل تحقيق الأهداف لدى البشر. فمن أجل الوصول إلى هدف لا بد في كثير من الأحيان من دفع بعض التضحيات لتحقيق هذا الهدف المنشود. وهنا تأتي مسألة المقارنة بين الخسائر والأرباح التي يتسبب بها الهدف المنشود.

فإن كانت الخسائر أكبر فقد يعدل الإنسان عن تحقيق هذا الهدف، ويبحث عن هدف آخر خسائره أقل. وينطبق هذا التقدير على كل شؤون الحياة اليومية المعيشة. طبعأ الحديث هنا عن الإنسان البالغ الراشد المفكر، لا عن ذاك الطفل أو المجنون أو المتهور أو… لأن جميع هذه الفئات البشرية لا تحسب مسألة تحقيق الأهداف.

يقال إنه كلما ارتفعت مستويات الوعي لدى الأشخاص المفكرين ترتفع كلفة تحقيق الأهداف. والكلفة هنا ليست بالضرورة في كل الأحيان مادية، بل قد تكون عاطفية أو معنوية أو أي صيغة أخرى.

ما دمنا نعيش في نظام رأسمالي، فهذا بالضرورة يستوجب وجود كلفة مادية لأي هدف، وتتحول كل الكلف إلى صيغ لها تقييم مالي. فالعاطفة تصبح مرتبطة بكلفة مالية، واهتمام الأبوين مرتبط بكلفة مالية، والإنجاب مرتبط بكلفة مالية، والاعتناء بالمسنين مرتبط بكلفة مالية …الخ.

كل هذه الأمور تجعل من تحقيق الأهداف مسألة أكثر تعقيداً، ويعود السبب في هذا إلى تعقد كلفة تحقيق الهدف.

وها نحن اليوم نشهد، على سبيل المثال لا الحصر، إبادةً للشعب الفلسطيني من قبل الكيان الصهيوني، والعالم، يقف متفرجاً، أو داعماً لهذه الإبادة الجماعية، إلا في بعض الأجزاء البعيدة منه، وبخاصة دول أمريكا اللاتينية.

وفق الكثير من التقارير من المؤسسات الكاذبة على المستوى العالمي، كالأمم المتحدة وتفرعاتها، وحقوق الإنسان وغيرها، فإن الكيان الصهيوني قد أباد ما يقارب 40 ألف شهيد فلسطيني. ضمن هؤلاء الشهداء أطفال ونساء ومسنّون ورجال.

أي هناك هدف محدد يعمل الكيان الصهيوني على تحقيقه وإلا ما أقدم على القيام بهذه الخطوة. الهدف واضح: احتلال كل فلسطين وطرد سكانها منها واستعباد محيطها لتحقيق أهداف الإمبريالية العالمية. وهذا ما يحدث يومياً، وخطوة بخطوة، من تطبيع علناً مع الكيان، إلى التطبيع بشكل موارب حتى تحين فرصة الإعلان، إلى إبادة جماعية للشعب الفلسطيني.

ما دمنا في الكلفة يمكن طرح السؤال التالي: ما اقتصاد هذا الكيان كي يقوم بجريمة عنصرية كهذه؟ جريمة تكلفتها مليارات الدولارات. فمن يدفع كل هذه الكلفة؟

قد تكون الإجابة المباشرة والواضحة هي أن كل دول العالم الداعمة لهذا الكيان تدفع الكلفة المالية ليرتكب هذا الكيان جرائمه. فكل طلقة نار تطلق على فلسطيني مدفوعة التكاليف، من الأنظمة العربية والأوربية والأمريكية، لذا يقوم الكيان الصهيوني بارتكاب جريمته من دون احتساب تكاليف تحقيق الهدف.

من ناحية أخرى في مسألة تحقيق الهدف لا بد من توافر شروط تحقيق الهدف. من الممكن أن أفكر بإبادة شعب لكن إن وجد من يدعمه فلن أتمكن من هذا. من الواضح أن الشروط متوفرة هنا لإبادة الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية. أيضاً على سبيل المثال لا الحصر، إذا تتبعنا مواقف ما يسمى الجامعة العربية، وأين تعقد قممها نجد أنها داعمة ومؤيدة بطريقة غير مباشرة لهذا الكيان الصهيوني. وإن كانت أقوال أعضائها تحمل نبرة خجولة في إدانة ما يحصل.

إذا توافرت الشروط الاقتصادية والشروط الموضوعية لهذا الكيان كي يرتكب جريمته الهادفة إلى القضاء على القضية الفلسطينية. فما الذي يردعه؟ لا شيء!

نعم، لا شيء يردع هذا الكيان الصهيوني ويمنعه من ارتكاب جريمته. الرادع الوحيد هو مقاومة الشعب الفلسطيني لا غير. نعم، فقط الشعب الفلسطيني. طبعاً هناك شعوب كثيرة تدعم القضية الفلسطينية لكنها بعيدة عن موقع الحدث وتقوم بكل ما تستطيع فعله كي تدعم القضية الفلسطينية، وبالتأكيد هنا لا نتحدث عن الشعوب العربية!

لكن هذا الشعب المقاوم للكيان الصهيوني بحاجة إلى مقومات صمود. فما هي مقومات صموده؟ لا شيء سوى إرادة الصمود! كل المعابر المحيطة بفلسطين مغلقة تماماً، ولا يجرؤ أحد على فتحها، أينما وجدت هذه المعابر.

ما يقارب 40 ألف شهيد، والعدد يتزايد مع مرور كل دقيقة، لأن أدوات الإبادة لا تتوقف عن الإبادة والشعب الفلسطيني يقف أمام العالم ليقول: صامدون. فكم من مرة سمعنا على بعض وسائل الإعلام (العربية) التي تبث من فلسطين، أو حتى تلك الفيديوهات المتناقلة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، صراخ من يحمل أشلاء أطفاله أو عائلته وهو يقول: أين أنتم يا عرب؟

عجيب أمر زعماء (الأمة العربية)، فعلى الرغم من غناهم الفاحش مقابل فقر فاحش لجزء كبير من شعوبهم، فهؤلاء الزعماء ليس لديهم أجهزة تلفاز أو هواتف ذكية كي يروا ما يجري في فلسطين!

حتى اليوم مع 40 ألف شهيد فلسطيني، حتى الساعة، لم نسمع ولا كلمة واحدة من أي زعيم عربي قال لمن يصرخ وهو يحمل أشلاء أطفاله: ها نحن آتون لإنقاذك وإنقاذ البشرية من هذا الكيان الصهيوني المتعطش لشرب الدماء. ما سمعه هذا الرجل الملطخ بدم أشلاء أطفاله من الزعماء خطابات ليتها لم تقال، ولكان صمتهم أفضل من خطاباتهم!

العدد 1132 - 13/11/2024