لقمةٌ مُغمّسةٌ بكلّ فيروسات القهر والوجع

إيمان أحمد ونوس:

ما يتعرّض له ويعيشه الشعب السوري، بمختلف فئاته وشرائحه، غدا اليوم أحد أهم عجائب الدنيا التي لم تُصنّف بعد ضمن قيود أكبر موسوعة في العالم! إذ كيف لشعبٍ أن يتحمّل، منذ أكثر من عشر سنوات، كل أصناف القهر والذلّ والجوع وما زال مُسجّلاً على قيد الحياة؟ كيف لشعبٍ أُوصِدَت في وجهه أسوأ أبواب العيش الكريم أن يبقى مُمسكاً ببقايا أشلاء إنسانية، فالإنسانية ذاتها باتت ضنينة وضيّقة على كائنات شبيهة بالبشر، كائنات تتشارك الحياة اليوم مع كل ما يُعتبر نفايات الحياة!!؟

مؤلم هذا التوصيف بل وقاتل لروح إنسان يُسطّره على مساحات بيضاء، علَّ بعض من يقرأ أن يتلمّس لنا العُذر، ولن أقول بعض حلّ.. لأن لا حلول تلوح في الأفق اليوم، فرغم بعض الأمل ونحن محكومون به على مدار العمر، إلاّ أن الواقع المرير شارف أن يغتال ما بقي من ذرّاته المُتناثرة في شظايا النفس والعقل!

إن الظواهر السلبية والقاتلة التي تفاقمت في حياة السوريين باتت اليوم أكثر وأعمق بكثير من أيّة ظواهر أخرى سلبية تعترض المجتمعات التي عاشت حروباً داخلية أو خارجية، وليس هناك من ينافسنا في هذا اليوم سوى الشعب الفلسطيني، خاصّة إخوتنا في غزّة الذين يتعرّضون في كل ثانية للموت بمختلف الوسائل وليس هناك من حسيبٍ أو رقيب، أو وازع من ضمير يلجم كل هذا الموت والقهر والذلّ. لكن الشعب الفلسطيني ما زال تحت وابل القصف العشوائي بسبب حربٍ غير عادلة، حرب وقتال اغتال كل إمكانات العيش الإنساني، أمّا في سورية فلقد صمت هدير الحرب وأزيز الرصاص منذ سنوات، إلاّ أن هناك حروباً أخرى نعيشها أشدّ إيلاماً من أزيز الرصاص وهدير الطائرات، إنها حربُ لقمة العيش التي باتت بعد كل تلك السنوات لقمة مُغمّسة بكل أصناف الوجع والموت العبثي على وقع هدير جشع التُجّار الذين لم يرووا ظمأهم وتعطّشهم لمراكمة الثروة والمال وتحكّمهم بلقمة عيشنا، وأيضاً على وقع أزيز رصاص الغرباء الطامعين بخيراتنا والذين لم ينتهوا بعد من تقاسم غنائم حربٍ ظفروا فيها بكل ما كانوا يشتهون ويأملون من ثروات ونفوذ وسطوة.

لا ريب في أن نتائج سنوات طويلة من حروب مُتعدّدة الأشكال واجهت السوريين قد أفرزت العديد من الظواهر التي لم تكن معهودة قبل الحرب، ولعلّ أفظع وأبشع تلك الظواهر تلك المُتعلّقة بالبحث عمّا يُبقي الكائن على قيد الحياة. إنها ظاهرة نبّاشي القمامة الذين تكاثروا في السنوات الماضية كالفطر في غابة! هذه الظاهرة اقتصرت في الماضي على البحث فقط عن أوعية زجاجية أو بلاستيكية لأجل بيعها لمن يعمل على تدوير تلك المواد وصناعتها من جديد بغية تقليص كُلف الانتاج، أمّا اليوم فقد طال النبش كل ما يمكن الاستفادة منه ولو بالحدود الدنيا، كبقايا أطعمة أو قطع قماش أو كرتون أو خبز طاله العفن أو… الخ. والموجع أكثر في هذه الظاهرة أن غالبية عناصرها والعاملين فيها هم من الأطفال الذين هجروا طفولتهم باكراً مثلما هجروا مقاعد الدراسة، وكذلك فتيات بعمر الزهور يختبئن خلف وشاح لم يُبقِ من ملامحهن سوى العيون التي تبحث مع الأيدي عن الهدف المنشود، إضافة إلى نساء هجرن أمومتهن وأنوثتهن لأجل البحث عن لقمة عيش لهنَّ ولأطفالهنّ وباقي من يُعلن في ظلِّ غياب المُعيل الرئيسي/ الرجل، لأسباب كثيرة بات أغلبنا يعرفها، أو ربما لمشاركة هذا المعيل في تأمين مستلزمات الأسرة في حدودها الدنيا، هذا إن كان هناك آباء ما زالوا حريصين على إبعاد أطفالهم عن تلك الظواهر بإرسالهم للمدارس.

ظاهرة نبّاشي القمامة كانت مادة دسمة للإعلام بمختلف فروعه، لكنها بقيت مادة إعلامية وحسب لم تنل اهتمام المعنيين بالآثار الصحية والنفسية والأخلاقية الناجمة عنها، وأهمّها على الإطلاق التسرّب الدراسي، لأن في هذا حقيقةً سيادة الجهل والأمية بشكل كبير، ما يعني عودة المجتمع إلى عصور الإقطاع والعبيد والتخلّف بكل أشكاله، إضافة إلى تخلخل القيم الأخلاقية والمجتمعية التي نالت حصّتها الأكبر من انزياح المجتمع إلى أخلاقيات ذات صلة بتسليع البشر والاتجار بهم، وهذا كله وفق آراء مختصين تربويين ونفسيين سيعمل شئنا أم أبينا على سيادة قيم جديدة لا يمكنها أن تبني الوطن أو الإنسان في الوقت الذي هو أحوج ما يكون لإعادة بناء الوطن الذي مزّقته صراعات سياسية ذات أهداف بعيدة تماماً عن مصالح الشعب السوري الذي تميّز على الدوام بالحيوية والتجدّد والعطاء، إضافة إلى الطيبة والمحبة والتسامح، وما زال هذا الشعب حتى اللحظة يسعى جاهداً للوصول إليها وإلى حالة الأمن والأمان وعودة الحياة الطبيعية إلى مختلف مكوناته كشعب واحد لا تُمزّقه شعارات الطائفية أو العرقية أو… الخ، لأن هذه الشعارات تخصُّ فقط أولئك الذين أشعلوا وأجّجوا تلك الحرب العبثية المجنونة حتى يصلوا إلى غاياتهم في الداخل والخارج.

لا يمكن أن يقتصر حال السوريين اليوم على ظاهرة نبّاشي القمامة، فهي واحدة من عديد الظواهر السلبية القاتلة التي شوّهت مفاهيم الإنسانية والوطن والمواطنة التي نسعى جميعاً للعيش بكنفها، فهل هذا كثير على السوريين!!؟؟

 

العدد 1104 - 24/4/2024