الحروب وتبعاتها.. أشدُّ أنواع العنف ضدّ النساء

إيمان أحمد ونوس :

حلَّ الخامس والعشرون من تشرين الثاني كيوم عالمي من أجل رفع العنف والتمييز عن المرأة، وقد أقرّته الأمم المتحدة عام 1999 بإصدارها القرار (54/134)، وذلك للحدِّ من معاناة النساء المُتمثّلة بأنواع مختلفة ومتعدّدة من العنف الجسدي والنفسي والمعنوي.. الخ، وكذلك لاعتباره فرصة لحثَّ المسؤولين على اتخاذ كل الإجراءات والتدابير الكفيلة بالاستئصال والقضاء النهائي على ظاهرة العنف ضدَّ المرأة، التي ما زالت الضحية الأساسية لانتهاكات حقوق الإنسان سواء على المستوى العالمي أو الوطني. كذلك أقرّت لجنة الأمم المتحدة للمرأة بتاريخ 15/3/2013 إعلاناً يدعو إلى إنهاء العنف ضدّ النساء وحمايتهن من التحرّش الجنسي والاغتصاب.

ولكن، إذا ما استعرضنا وضع المرأة السورية على مدى أكثر من عشر سنوات هي عمر الحرب التي ما زالت مُستمرة بأشكال أشدّ قسوة وعنفاً من أزيز الرصاص وهدير المدافع الطائرات، نجد أنها تعرّضت وتتعرّض يومياً لعنف مضاعف وفظيع بسبب ما يجري في البلاد أو في مناطق النزوح واللجوء.

ففي الداخل عانت المرأة أشدّ أنواع القهر والعنف، بحكم الحرب وما جرّته من نزوح داخلي طال الآلاف ووضعهن في ظروف معيشية قاسية ومريرة من حيث الحاجة إلى مكان يؤويهن وأطفالهن، إضافة إلى تأمين لقمة العيش التي بات تأمينها اليوم أمراً صعباً وقاسياً حتى على الرجال في ظروف اقتصادية مريرة وغلاء يستحيل معه الحصول على ما يسدُّ رمق الأطفال، وفوق ذلك فإن كثيراتٍ من الأمّهات واجهن هذه الظروف وحيداتٍ، في ظلِّ غياب الرجل الذي استُشهد أو اعتُقل أو اختُطف أو ذهب للقتال، وهذا ما يجعل أولئك النسوة أكثر عرضة لمحاولات التحرّش والاغتصاب أو الاستغلال في أعمال وضيعة إن وجدت لا تكفي لوأد الجوع، إذ بات مثلاً مشهد المرأة بصحبة أطفالها متسوّلة في الشوارع أمراً عادياً لم يعد يُحرّك الضمير أو الوجدان الاجتماعي أو الرسمي، ولا أولئك الداعين لمناهضة العنف ضدّ المرأة.

إن هذا الوضع بشكل عام يقود المرأة إلى اتجاهات مختلفة تعمل على إضعاف موقفها ودورها في الحياة عندما ينشط الزواج المبكر لفتيات لم يبلغن سنَّ النضج بعد أن حُرمن من إكمال تعليمهن بسبب النزوح وتدمير المدارس وخشية الأهل من تعرّض الفتاة للاغتصاب أو ما شابه، ومستقبلاً ربما يؤدي هذا الزواج إلى الطلاق الذي ارتفعت نسبته في السنين الماضية إلى مستويات مرعبة حسب ما أورد المسؤولون والقضاة في المحاكم الشرعية السورية، إذ دفعت الأحداث في بداية الأزمة العديد من النساء إلى طلب الطلاق، بسبب تباين الموقف السياسي بين الزوجين من تلك الأحداث، إضافة إلى الوضع الاقتصادي المرير الذي تفشّت معه البطالة بعد تسريح العديد من الرجال من أعمالهم وتصدي المرأة لتأمين احتياجات الأسرة، ما دفع بالعديد من أولئك الرجال لممارسات ذكورية عنيفة ضدّ المرأة خشية فقدان سلطتهم التقليدية، ممّا فاقم من حدّة المشاكل الموجودة أصلاً ودفع بالمرأة ذاتها إلى طلب الطلاق خلاصاً أخيراً من عنف مُتعدّد الأشكال والاتجاهات.

كما لا يفوتنا أن نذكر أنواعاً أخرى من العنف الروحي والنفسي تُعانيه المرأة السورية بحكم الحرب ألا وهو فقدان الأحبة من أبناء وإخوة وزوج ذهبوا ضحية ما جرى قتلاً أو خطفاً أو اعتقالاً، لذا تراها دائمة القلق والتوتّر على مصير أولئك الرجال الغائبين، حيرى بين واجب يتطلّب منها تشجيعهم والصمود أمامهم، وعاطفة تغتال كيانها فتعصف بمشاعرها وأمومتها الممزوجة أبداً بالفخر حيناً، والحزن حيناً آخر. فكم من أمّ ثكلى على مساحة سورية فُجعت بفلذة كبدها، تجدها تائهة بين تناقضات مشاعرها وأمومتها، وكم من زوجة فقدت زوجها فوجدت نفسها (وربما صغيرة السن) مسؤولة عن أسرة بكل احتياجاتها النفسية والعاطفية والمالية.

أيضاً لا يمكن إغفال ما تتعرّض له المرأة عندما تنخرط بالعمل السياسي الذي يقودها للاعتقال أو حالات أخرى تجعلها مثار انتقادات اجتماعية ترفض ممارسة المرأة لهذا النشاط في الحالات الطبيعية، فكيف سيكون الوضع في الحالة الاستثنائية التي تعيشها البلاد!؟ ورغم ذلك تجد الكثير من النساء اللواتي لا يُعرن اهتماماً لكل تلك الانتقادات أو الرفض الاجتماعي أمام رغبتهن وإيمانهن العميق بضرورة المشاركة في الحياة السياسية من أجل النهوض بالحياة الإنسانية عموماً.

أما ما تتعرض له المرأة في بلدان النزوح واللجوء فهو أكثر فظاعة وقهراً، فقد راج استغلال النساء جنسياً تحت مُسميات عدّة كزواج السترة وما شابه، إضافة إلى الاتجار بالفتيات عبر شبكات دولية تعمل في الأوساط السورية النازحة من بلاد الحرب بقصد الإيقاع بأكبر عدد ممكن من القاصرات اللواتي يتمّ استقدامهن من مخيمات اللاجئين السوريين في تركيا والأردن ولبنان، ويجري تحويلهن للعمل في مجال الدعارة.

كما لا ننسى استغلال النساء والفتيات السوريات في تلك البلدان من أجل العمل خادمات مقابل أجر زهيد لا يكاد يسدُّ رمق الجوع والمرض من خلال إعلانات ذاع صيتها ترغب بالسوريات تحديداً في محاولة للإمعان في إذلالهن واستغلال ظروفهن القاسية في العديد من تلك البلدان.

ويبقى عنف القانون عنفاً لا يقلُّ شأناً عن كل أنواع العنف الأخرى، ذلك أنه الحكم النهائي في حال اللجوء للقضاء. لقد لعبت الناشطات في الحركة النسوية السورية منذ عقود دوراً هاماً ودافعاً لتعديل العديد من القوانين والمواد التمييزية ضدّ المرأة، كتعديل قانون الجنسية والأحوال الشخصية والعقوبات وغيرها، وعليه تمّ تشكيل لجنة لدراسة هذه القوانين، وخرجت في عام 2011 بتوصيات تقتضي تعديلاً قانونياً يتوافق مع ما وصلت إليه المرأة السورية من مكانة في المجتمع على مختلف المستويات العلمية والعملية، وبما يتناسب ومفهوم المساواة بين الجنسين في الحقوق والواجبات استناداً إلى اتفاقية السيداو التي صادقت عليها سورية. لكن، وبسبب الحرب التي نشبت إثر الأزمة السياسية في البلاد، فقد تمّ تجميد قرارات وتوصيات تلك اللجنة إلى أمد مجهول بحكم التداعيات الخطيرة التي طرأت على المجتمع السوري بمختلف شرائحه، لاسيما فيما يتعلّق بقانون الجنسية وحق المرأة السورية منح جنسيتها لأبنائها من أبٍ غير سوري، وكذلك معالجة أوضاع الأطفال مجهولي النسب، وقد جاء هذا التجميد على خلفية الحجج والذرائع التي أُدرجت بعد التداعيات المذكورة.

هذا بعضٌ ممّا تعرّضت وتتعرّض له نساء سورية منذ أكثر من عقد من الزمن ولا زال الحال يسير باتجاه انحدار مرعب على المستوى المعيشي والقانوني والإنساني بالنسبة للمرأة باعتبارها الكائن الأضعف من جهة، والذي يُمثّل شرف العائلة من جهة أخرى، ليكون العقاب والانتقام بانتهاك الجسد والشرف معاً.

إنه بامتياز انتهاك لحقوق الإنسان ولكل المواثيق الدولية، باعتباره اتجاراً بالبشر والرقيق الأبيض في زمن التشدّق الدولي والمنظمات الدولية بحماية المرأة وصون حقوقها، فأين هذه المنظمات ممّا تتعرّض له المرأة السورية في الداخل والخارج؟ وإلى أيّ حد يُعتبر اليوم العالمي لمناهضة العنف ضدّ المرأة، وإعلان لجنة الأمم المتحدة أعلاه إيجابياً وفعّالاً تجاه السوريات وما يُعانينه من اغتصاب وقتل وتهجير وانتهاك لحقوقهن وكرامتهن الإنسانية؟

وكيف لنا نحن السوريات أن نُحيي هذا اليوم في ظل كل هذه الانتهاكات اليومية بحق النساء السوريات في الداخل والخارج دون أن يرفّ جفن أو يتحرك ضمير إنساني عالمي أو محلي؟

العدد 1104 - 24/4/2024