أمن الغذاء العالمي على المحكّ

د. نهلة الخطيب:

الصدامات الاقتصادية والحروب والصراعات والتقلّبات المناخية وشحّ الإمدادات العالمية جعلت العالم يمرّ بأزمة غذائية غير مسبوقة، إذ شهدت سلاسل توريد الأغذية العالمية تقلبات متزايدة بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية التي تسببت باضطراب في نظام الأغذية العالمي تجاوزت تداعياته حدود منطقة النزاع، ووجهت ضربة قاصمة للأمن الغذائي لملايين الأشخاص وخاصة البلدان التي كانت تعاني من انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية قبل اندلاع الحرب.

أوكرانيا (سلة غذاء العالم) فهي مركز رئيسي للإمدادات الغذائية وخاصة القمح والذرة والشعير والأسمدة الزراعية، أصبحت غير قادرة على ضمان الأمن الغذائي لكثير من الدول، في ظل خسارة ربع أراضيها الزراعية وتراجع المحاصيل بها بنسبة 40% وانخفاض صادراتها من الحبوب وارتفاع أسعارها حول العالم وارتفاع معدلات التضخم وتفاقم الجوع، إذ يعاني 345 مليون شخص بسبب انعدام الأمن الغذائي الحاد وفق تقديرات برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة.

انعدام الأمن الغذائي من أهم العوامل المهددة للاستقرار العالمي وخاصة خلال الشهور الماضية، بداية من انسحاب روسيا من اتفاقية الحبوب أو ما يعرف رسمياً باسم (مبادرة البحر الأسود لنقل الحبوب) التي أتاحت تدفق الصادرات الزراعية الأوكرانية، وشنها هجوماً على ميناء اوديسا، مروراً بإعلان الهند وروسيا سياسة الحمائية بحظر صادرات الأرز، وذلك بالتزامن مع ارتفاع درجات الحرارة المؤثرة سلباً على إنتاج المحاصيل الزراعية وعلى مستويات أسعارها وتوافر المياه اللازمة للزراعة وإعطاء الأولوية لشعوبها دون مراعاة الانعكاسات السلبية لتلك القرارات على انعدام الأمن الغذائي العالمي.

في زيارة نادرة للرئيس التركي رجب طيب إردوغان إلى روسيا وخاصة أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يعاني نوعاً من العزلة الدولية بعد الحرب مع أوكرانيا، وفي جعبته الكثير من الملفات الساخنة (العلاقات الثنائية، والملف السوري، والأزمة الأوكرانية، والغاز الروسي، وأرمينيا)، والأهم من كل ذلك محاولة من إردوغان ليلعب دور الوسيط على خلفية اتفاقية تصدير الحبوب الأوكرانية، وهو اتفاق عقد في تموز (يوليو) عام 2022 تحت رعاية تركية ودعم الأمم المتحدة لضمان تدفق الامدادات الغذائية الى الأسواق العالمية، وقد انسحبت منه روسيا في تموز الماضي ما أدى الى ارتفاع أسعار الحبوب في الأسواق العالمية، وخلال اللقاء الصحفي قال بوتين: (إن روسيا سترسل نحو مليون طن من الحبوب المجانية بشكل مباشر الى ست دول إفريقية تعاني جفافاً ونقصاً حاداً في الغذاء)، وكان رد إردوغان بأن (هذا ليس حلاً مستداماً ولكن يمكن إعداد اقتراحات جديدة برعاية الأمم المتحدة، ومهما كانت أخطاء الاتفاقية يمكن إنقاذها).

فهل أصبح القمح سلاحاً في الحرب الروسية الأوكرانية التي تتصاعد بطرق جديدة لاستقطاب الرأي العام العالمي، وروسيا تحاول أن تستغل الأوضاع في حربها ضد أوكرانيا بجميع الطرق الممكنة بتصعيد روسي جديد، عندما قررت تعليق اتفاقية الحبوب لوجود مجموعة من العقبات أمام صادرات الحبوب الروسية بسبب العقوبات الاقتصادية وهو ما تراه روسيا خرقاً للاتفاق الذي يهدف إلى تصدير الحبوب والأسمدة المتضررة بسبب الحرب، وعدم وصول الحبوب بشكل مناسب لدول العالم الثالث، إذ إن 3% فقط من صادرات الحبوب الأوكرانية تذهب الى البلدان الفقيرة، والدول الأكثر تضرراً من أزمة الحبوب شعوب إفريقيا وأمريكا اللاتينية وجنوب آسيا وأوربا، روسيا تقول إنها ستوصل القمح مجاناً إلى الشعوب الإفريقية، والولايات المتحدة الأمريكية لا تقول ذلك وتنافس روسيا أمام الرأي العام في هذه الدول، وهناك دول حليفة لأمريكا تواجه مشكلات في تأمين القمح، فهناك تحدٍّ كبير تواجهه الولايات المتحدة الأمريكية في هذه المنطقة بعد خروج روسيا من الاتفاقية وعرضها المجاني للقمح، فهذا الطرح هو قوة لروسيا أم ضعف للولايات المتحدة الأمريكية التي تحاول منافسة الصين في إفريقيا، وقد عقد بايدن قمة أمريكية إفريقية كبرى بحضور45 دولة افريقية خصصت فيها واشنطن (55 مليار دولار) مساعدات لها، وفي حال تضررت هذه الدول من قرار روسيا بتعليق اتفاقية الحبوب ستكون الولايات المتحدة أمام تحدي تنفيذ وعودها، وبالتالي تكون الولايات متضررة من الأزمة الحالية للقمح أيضاً، ولاسيما أن حليفتها فرنسا تواجه تراجع نفوذها الافريقي، وهناك من يقول إن الولايات المتحدة الأمريكية ربما تتجنب الضرر الفرنسي وتحاول أن تحل شيئاً فشيئاً مكانها في هذه الدول، وأزمة القمح قد تكون فرصة للولايات المتحدة لزيادة نفوذها في تلك الدول الإفريقية عبر تقديم مساعدات مباشرة إلى هذه الدول وحث دول صديقة لها مثل أستراليا منتجة للقمح لمساعدة هذه الدول وإظهار نيتها الحسنة بأنها لا تريد تعريض هذه الدول لعقوبات غير مباشرة على روسيا.

عمل مكثف من الولايات المتحدة الأمريكية وشركائها لإيجاد مسارات وطرق بديلة وجهود دبلوماسية بالنسبة للمرافئ في الدانوب أو سفن أخرى من أجل إنجاح الاتفاق، إذ إن قضية أوكرانيا أصبحت من الملفات المهمة للسياسة الداخلية الأمريكية وخاصة أننا على عتبة انتخابات رئاسية قادمة، فالمعركة الانتخابية بدأت وكل قرار يتخذه الرئيس بايدن سواء كان صحيحاً أو غير صحيح سينتقده الحزب الجمهوري عليه، فبايدن لا يستطيع أن يظهر أي نقطة ضعف سواء تجاه روسيا أو تجاه أي طرف آخر، والولايات المتحدة من مصلحتها أن تنتهي الحرب قريباً وروسيا من مصلحتها أن تستمر الحرب الى أن تحصل الانتخابات الأمريكية، فنتيجة الانتخابات ستؤثر على الموقف الأمريكي تجاه الحرب، ولكن ليس هناك من دليل على بداية نهاية الحرب وروسيا ستحاول الاستمرار فيها إلى ما بعد الانتخابات الأمريكية.

ويعد الأمن الغذائي واستقرار الأسعار رهناً بتمديد اتفاق مبادرة الحبوب، وفي حال عدم التوصل إلى اتفاق ستقفز أسعار محاصيل القمح والذرة والشعير إلى مستويات قياسية مرتفعة جداً، أزمة الغذاء إلى جانب أزمة الطاقة تزيد من مخاطر الركود الاقتصادي وضائقة الديون وأزمة تكلفة المعيشة المستمرة وربما تسبب بحرب جيواقتصادية. وماذا لو تواصلت الحرب الروسية الأوكرانية إلى مالا نهاية وجاءت حكومة مختلفة عن حكومة بايدن؟ فهل سيختلف وضع الأمن الغذائي في العالم؟!

العدد 1107 - 22/5/2024