شباب يحلّقون خارج فضاءات السياسة 

إيمان أحمد ونوس:

الشباب، مرحلة الأحلام والطموح والأهداف الإنسانية والأخلاقية الكبرى في حياة كل إنسان من الجنسين. ولعلَّ أكثر ما يشغل هؤلاء الشباب هو القضايا الإنسانية والأخلاقية كالخير والمحبة والتعاطف، مثلما تشغلهم أسئلة البحث عن سرّ الوجود والله، بحكم الموروث القيمي الديني والاجتماعي المؤثّر في محيطهم. وأيضاً هناك قيم الحق والعدالة الاجتماعية والمساواة التي ينشدونها من أجل مجتمع يتساوى أفراده في الحقوق والواجبات. وبين هذه وتلك، يسعى الشباب لتحقيق أفكارهم ورؤاهم عبر تجمعات تُلبي وتستوعب تلك التطلّعات، فيلوذ بعضهم إلى اتجاهات قد تكون دينية عبر الجمعيات الخيرية والمنتديات المعنية بهذا الشأن، والبعض الآخر يلجأ إلى التجمعات والمنظمات السياسية التي تتبنّى شعارات وآراء متوافقة مع وجهات نظرهم.

وقد تنبّهت الأحزاب والحكومات المتعاقبة ما بعد الاستقلال إلى هذا الأمر، فأنشأت المنظمات الشبابية التي تحتويهم في مراحلهم العمرية والدراسية المختلفة، ووضعت برامج تناسب ميولهم واهتماماتهم، حتى بات بعضها الحامل الرئيسي لجيل بأكمله، من حيث إعداد وتهيئة الكوادر المختلفة التي يحتاجها المجتمع.

لكن، ومع مرور الزمن، ومع تسييس مختلف التنظيمات والهيئات المدنية الناشطة في المجتمع على مدى عقود، ابتعدت هذه المنظمات عن مسارها فأُفرِغت من أهدافها الأساسية الموجَّهَة والموجِّهة للشباب، كما أنها باتت عاجزة عن مواكبة المتغيّرات والتطورات التي جاءت مع ثورة الاتصالات العالمية وتأثيراتها السريعة على جيل الشباب الأسرع والأكثر تفاعلاً معها من جهة، ومن جهة أخرى باتت غالبية القيادات الحزبية تخشى رؤى التجديد لدى الشباب، ممّا قد يجعلها- من وجهة نظرها- تخسر مواقعها، فحكمت ليس فقط على جيل الشباب، ولا على المجتمع برمته، بل حكمت أولاً وقبل كل شيء على نفسها وأحزابها بالجمود والانغلاق على الذات، لأن الشباب في كل المجتمعات الإنسانية هم الرافد الأساسي للحياة وتطوّرها. فكانت المأساة الكبرى التي نجمت عن ذلك، والمتمثّلة بضياع أجيال الشباب على مرّ عقود، حتى سادت العبثية واللاجدوى مصيرهم الذي قاد غالبيتهم إمّا إلى تيارات دينية مُتشدّدة (وهذا ما لمسناه فيما حصل من أحداث واضطرابات ونزاعات سادت بلداناً عربية عدّة من ضمنها سورية) وإمّا إلى نقد ونقض أفكار مختلف الأحزاب السياسية القائمة، والسعي للخلاص من شرنقتها بحثاً وسعياً لإنشاء تنظيماتهم الخاصّة بهم وفق رؤاهم التي يعتبرونها الأفضل والأكثر خدمة لهم وللمجتمع في محاولة لتعزيز حضورهم البنّاء الذي تمّ اختزاله بمهام وأنشطة سطحية تخدم وتُعزّز السلطات السياسية القائمة لا أكثر، حتى باتوا في نظر أنفسهم كمّاً مُهملا ًومهمّشاً، فكانت إشكالياتهم ومشكلاتهم أحد أهم الأسباب وراء المجريات والأحداث التي شهدتها غالبية دول المنطقة منذ أكثر من عقد مضى، وكان أولئك الشباب المُحرّك الأساس فيها والداعم لها في رغبة جامحة لتغيير واقعهم وتعزيز فاعليتهم وحضورهم في السياق العام لتلك الأحداث.

لقد سادت لدى غالبية الشباب (من الجنسين طبعاً) وخلال الحرب المجنونة روح الإنسانية والابداع الخلاّقة في التعامل مع أزمات المجتمع وكوارثه في كثير من الأحيان من خلال مجموعات عمل ميدانية حاولت جاهدة النهوض بالأفراد والمجتمع من قاع الحرب والموت والإرهاب إلى فضاءات أكثر إنسانية، كي يتمّ تجاوز الواقع بأقل الخسائر المحتومة، فعلى سبيل المثال نشأت منظمات مدنية تعمل على معالجة الأطفال الذين يوجدون في مناطق ساخنة، معالجة نفسية، من أجل تخفيف حدّة ما عايشوه وشاهدوه، أو تعرضوا له مع أسرهم. ومثلها التي تُعنى بالنساء وما تعرّضنَ له من ويلات تلك الحرب كالاغتصاب والفقد والنزوح، وغيرها الكثير ممّا حاول الشباب تقديمه خدمة للإنسان والبلاد وفق رؤية منفتحة على الآخر وضرورة الانعتاق من شرانق التعصّب بمختلف أشكاله سياسية كانت أم دينية.. الخ.

لكن، ورغم كل ما جرى من دمار شمل البشر والحجر وما تمّ فعله من قبل هؤلاء الشباب، ما زالت العقلية ذاتها تسود العلاقة مع الشباب من حيث قمع أيّة مبادرة خلاّقة للنهوض بواقعهم، فقط لأن هذه التنظيمات لا تتوافق والمطلوب، ولأنها لا تعمل تحت مظلّة سياسية مُعدّة الأهداف والغايات مُسبقاً رغم أن المجتمع اليوم يحتاج أكثر من أيّ وقت مضى لجهود وفكر وعزيمة الشباب ولا أحد سواهم كي تنهض البلاد من تحت رمادها ويعود للحياة ألقها وإشراقها مُعلنة ما بين الحين والآخر عن عطاءات وإبداعات شبابية تتطلّب الدعم والمؤازرة كي تُزهر وتُثمر مُجدّداً عملاً دؤوباً لإعادة بناء البلاد والمجتمع على أُسُس علمية وإنسانية أفضل، بعيداً عن النمطية المفروضة والتّلقي الأصم الفارغ من كل تفكير وعطاء، وهذا يتطلّب من الحكومة أولاً وقبل كل شيء، الإيمان بأن الشباب هم عماد الأوطان ومستقبلها، ومن ثمّ إفساح المجال رحباً أمام ما تبقى منهم، للاستفادة من إمكاناتهم وقدراتهم الهائلة من أجل النهوض بالمجتمع لأن إعادة الإعمار لا يمكن أن تتمّ إلاّ بأيدي وعقول هؤلاء الشباب الذين آثروا البقاء في وطنهم رغم كل ما جرى، ورغم معاناتهم اليومية بسبب بطالة تخطّت النسب العالمية بأرقام مرعبة، ما جعلهم حقيقة يؤثرون الابتعاد عن السياسة وأحزابها التي همّشتهم فدفعتهم للتحليق في فضاءات بعيدة عنها كل البعد.

العدد 1104 - 24/4/2024