أمي.. سنديانة متجذّرة فينا
إيمان أحمد ونوس:
أمي.. في رحيلك الأبدي لم أجد خيراً من سيرتك التي كتبتها يوماً في هذه الجريدة لأعيد نشرها تكريماً لروحك الطاهرة التي لم ولن تغادرنا أبداً.
ظبية بريّة تطارد أحلامها الهاربة من خلاياها وروحها.. توْدِعُها شفق الغروب القروي مترنماً ثغاء (نعجات) كنَ رفيقاتها.. أحلام بسيطة بساطة ماء عين الزرقا وقناة العاشق.. وسهول سلمية.
لم تجرؤ تلك الظبية على البوح بأحلامها، لأن عادات وأعراف القرية كانت لا تعترف بأحلام الفتيات.. ولا تقيم وزناً لآمالهن في أن يكن كالفتيان، يدخلن المدارس، أو يسهرن على تخوم البيادر حتى الصباح.. فكيف بحلم الرغبة في التعليم ودخول المدرسة مثلها مثل بعض فتيات القرية. فما كان منها إلاَ أن وقفت بعيداً تسترق السمع إلى أستاذ المدرسة وهو يلقي دروسه على الطلاب من قراءة وحساب وأناشيد ترددها خلسةً وراءه وكأنها واحدة من تلميذاته. وما إن تشعر بوجود أحد حتى تسارع في العودة للبيت أو المرعى.. خوفاً من العقاب والتوبيخ.
إلاَ أن روحها ووعيها ضاقا بذلك الحلم (دخول المدرسة) فباحت به لوالدتها، فأتاها الجواب مزلزلاً كيانها وروحها دون أن تفهم معناه: (تتعلم من أجل أن تكتب مكاتيب للشباب؟!! لا.. لا!)، فتعود وتدفن حلمها بعيداً.. بعيداً في أعماق روحها ووجدانها وذاكرتها التي ستبقى وفيّة لذلك الحلم الذي حققته في أولادها وأحفادها لاحقاً.
وما إن اشتدَّ عودها، وبدأت ترتسم على محيّاها ملامح أنوثة طفولية، حتى زُفَّت لقريب لها دون أن تعرفه أو تراه، فما كان منها إلاَ الرضوخ لواقع اعتبرها أنثى كاملة وجاهزة للقيام بواجبات الزواج والأمومة، وأين؟ في أماكن قصيّة عن قريتها التي ينتهي عالمها عند حدودها.. فالزوج يؤدي الخدمة العسكرية في مناطق حدودية مع العدو، وغدت رحَالة تتنقل دائماً في بلداتٍ أعطتها ذلك البعد المعرفي بالأماكن والناس والحياة.
وأصبحت تلك المراهقة الفتيّة بين ليلة وضحاها أمّاً تصارع شظف العيش والخوف في زمن كان يحفل بالغارات الإسرائيلية الدائمة، وهذا ما كان يستدعيها للهرب ببناتها الأربع إلى ملاجئ بعيدة، تحملهن الواحدة تلو الأخرى بشكل متتابع فتتضاعف المسافة عليها ثلاثة أو أربعة أضعاف، وهي المرأة الصغيرة التي لم تعتد في قريتها إلاَ على الأمن والسلام. غير أن هذا الوضع منحها قوة وصمود حقيقيين في الوقوف إلى جانب الزوج ومؤازرته، إضافة إلى تربيتها للبنات، وقد عاشت أمومتها بتفانٍ لا متناهي، وما كان منها، وعبر طبيعة فطرية في التعامل مع تلك الأمومة إلاَ أن تحاول جاهدة تغيير الواقع البغيض الذي يحيق بالإناث، (خاصة أنها صارت أماً لعشر فتيات) من حيث التربية والتعليم، وفي ظروف مادية قاسية لأسرة كبيرة العدد.
لم تكن أماً تقليدية من حيث العاطفة أو الشعور بالنقص لأنها لم تنجب الصبي (وإن كانت دوماً تتمناه) ولم تتعامل معنا لا هي ولا الوالد على أننا بنات ينبغي أن يقبعن داخل حرم البيت، على العكس من ذلك، فقد أصرَا على زجّنا في الحياة بكامل أبعادها لنكون جديرات بها، مستعدات لكل مفاجآتها.
لم نشعر يوماً أننا بلا أخ، وأن هناك حاجة لوجوده بيننا كي يحمل أعباءنا، أبداً.
لقد استيقظ ذلك الحلم المقصي في الذاكرة، حلمها بالتعليم الذي اغتاله أهلها مع طفولتها، فقرّرت أن تحققه وتجعله حيّاً فينا نحن أولادها، وكرّست كل ما يمكنها لذلك، فلقد كانت تمسك بالكتاب كي تذاكر لنا دروسنا، ولم نكن نعلم حينها أنها أميّة لا تقرأ ولا تكتب، وكثيراً ما أنقذتنا من عقاب الوالد أثناء مذاكرته لنا، بأن تحفظ الدرس شفهياً لتعيده على مسامعنا وتُصرّ على حفظنا له بأي شكل.
لا أنسى ما حييت إصرارها على إكمال تعليمي، وقد وضعت بقاءها في البيت مقابل بقائي في المدرسة شرطاً لم تتنازل عنه حتى كان لها ما أرادت. وجعلت الوالد يؤمن بأهمية تعليمنا لأننا فتيات.
فهل تستطيع كل أشعار الأرض والأحاديث النبوية والآيات القرآنية أن تفيها حقها وهي الأميّة التي لا تعرف من الحياة إلاَ أن تجعلنا جديرات بها من خلال تربية لم تقرأ عنها يوماً، بل كانت بمنتهى الحس الفطري تؤمن بأن سلاح الفتاة علمها وعملها الذي يقيها غائلات الزمن عندما يصل إلى مرحلة الغدر، محاولة تأمين احتياجات المدارس والجامعة من خلال عملها ومساعدتها للوالد في حانوته الخشبي لبيع الخضار والفواكه، فتستفيد من كل ما لا يصلح للبيع طازجاً لتحوّله مؤونة تستفيد من ثمنها في تأمين مستلزمات تعليمنا. وأيضاً دفعنا للعمل مع الوالد واحترام تعبه من أجل النهوض بأعباء الأسرة التي أصبحت مكونة من 15 فتاةً وشاب، معظمهم من خريجي الجامعات والباقي تعليم متوسط والأقل تعليماً حصل على الإعدادية.
لم تقف عند هذا الحدّ، ولم تتنازل عن حلمها الشخصي في التعلَم، بل دخلت دورة محو أمية لأول مرة ولم تنجح. لكنها لم تيأس، فحاولت ثانية ونجحت، فقط لتستطيع قراءة ما تحتاجه في حياتها اليومية من أرقام الهاتف، أو عيادة طبيب، أو اتجاه الباص، أو أي شيء يمكن أن يغنيها عن السؤال.
بالفطرة علّمتنا أن الأمومة ليست احتضاناً مادياً، وليست أطباقاً يمكن إعدادها في ظروف مادية صعبة. علمتنا أن الأمومة حب وعطاء من خلال التربية النفسية السليمة القائمة على البساطة والصدق والعفوية، وأيضاً من خلال الثقة المتبادلة بيننا وبينها، فكانت الصديقة الوفية التي نلجأ إلى صدرها أوقات الشدائد والمحن.. تزودنا بمعارفها ومعلوماتها التي تساعدنا على اجتياز أيّة عقبة تصادفنا، لم تشعرنا يوماً لا هي ولا الوالد بالتمييز بيننا وبين أخوتنا الذكور الذين جاؤوا بعد طول انتظار، بل على العكس من ذلك، فقد جعلت من أسرتها خليّة متماسكة ومنسجمة أفرادها حتى بعد أن استقلَّ كلٌ منهم في حياته، لأن المؤازرة والحب شعاراً غرسته فينا رغم هذا العدد الكبير، فجاءت الثمار متناسقة مع نهجها وما أرادت.
كانت وما زالت تعشق الحياة والحب، وتؤمن بأن الزواج المبني على الحب الناضج والصادق هو الذي سيصمد أمام المحن والعواصف.
هي ذي الأمومة التي تخلق وتصنع أجيالاً تفاخر بها في زمن لا مكان فيه لامرأة ضعيفة تركن لقدرها الذي تصوغه أعراف وتقاليد عفا عليها الزمن، أمومة ترى الأنوثة في العقل والعلم، لا في التبرّج والزينة والزواج المبكر. أمومة تجعل من الرجل شريكاً حقيقياً للمرأة في صنع الحياة، لا نداً لتحاربه.
أين نحن اليوم والثقافة والأسس التربوية الحديثة تملأ أسماعنا، ونحن عنها مدبرون، من تلك التربية التي وهبتنا إياها أرضاً غنية بعطائها اللامتناهي من كنوز مكامنها الروحية؟
فهل نستطيع حقاً مغادرة تلك الأرض الخصبة بما منحتنا من قوة وصلابة وسلام روحي؟
وهل تستطيع كل كتب الكون وأشعاره أن تفيها حقها في القداسة والطهر؟؟
لروحك الطاهرة أيتها السنديانة المُتجذّرة فينا الرحمة والسلام.. ولنا في ما أودعتِ فينا خير عزاء ووفاء..