مع فريدريك إنجلز

عبد الرزاق دحنون:

في الذكرى المئتين لميلاده، ترسخت علاقتي القديمة مع مؤلفات المفكر الألماني فريدريك إنجلز وخاصة كتابه المشهور (أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة)، فقد قرأتُ الكتاب في فتوتي، فأعجبني جداً في أسلوب جدله وطرحه الحجة بالحجة، راق لي منطقه، فتعلقت به وبأفكاره، فصرنا أصدقاء وصرت أعود إلى مؤلفاته وما كتب عنه بين الفينة والأخرى. ومن ثمَّ قرأتُ جميع أعماله المترجمة إلى العربية، وأخص بالذكر المراسلات مع رفيق دربه كارل ماركس. وها أنا ذا أحاول في هذه الكلمات التعبير عن امتناني وتقديري لهذه القامة العالية التي تعلمت منها الشيء الكثير من أساسيات التفكير المستقيم.

 

تيريل كارفر يكتب عن إنجلز

كان آخر ما قرأتُ عن فريدريك إنجلز كتاباً شيقاً تأليف تيريل كارفر صدر ضمن سلسلة (مقدمة قصيرة جداً) في مئة صفحة، وهي سلسلة أقل ما يُقال فيها إنها ممتازة في اختياراتها وثراء مضمونها. تيريل كارفر هو أستاذ أمريكي ومدرس النظرية السياسية في جامعة بريستول. من مؤلفاته: نظرية ماركس الاجتماعية، وماركس وإنجلز العلاقة الفكرية، وفريدريك إنجلز حياته وفكره، وماركس ما بعد الحداثة. يقول في مقدمة كتابه: على الرغم من كثرة الكتب التي تناولت ماركس والماركسية، فقليلة هي الكتب التي تتحدث عن إنجلزـ وربما يوجد عدد أقل من تلك الكتب التي تناولت إنجلز بطريقة جدية بصفته واحداً من المفكرين. في هذا الكتاب، حاولت تقديم دراسة دقيقة وموجزة عن أفكار إنجلز، وإلى حد كبير أتحتُ له فرصة التعبير عن نفسه، نظراً لأن كلماته واضحة على نحو مناسب. لقد كان جُلُّ هدفي هو إثارة القارئ بأفكار إنجلز وتأثيرها على كلٍّ من العلوم الاجتماعية والسياسية المعاصرة.

سأختار من الكتاب بعض العناوين التي أعتقد بأهميتها في التعريف بهذه القامة الفكرية الكبيرة التي قال عنها كارل ماركس ذات يوم: إن إنجلز من أعلام رجال الفكر في القارة الأوربية.

 

إنجلز شيوعياً

أثناء وجود فريدريك إنجلز في برلين في الفترة ما بين عامَي 1841-1842 عكس تطوره السياسي التطور الذي مر به الهيغليون الشباب فبعد تخفيف الرقابة على الصحافة، تحولت آراؤهم السياسية في الدفاع عن الحالة العقلانية المتسقة على نحو أو آخر مع الرؤية الهيغلية، إلى النقد الصريح لهيغل، ورفض ليبرالية الطبقة الوسطى، ثم توجهت للدفاع عن الديمقراطية والإصلاح الاجتماعي الذي يصب في صالح الفقراء. واستخدم كثير من الكتاب في ذلك الوقت الاشتراكية والشيوعية على نحو متبادل، غير أن الشيوعيين كانوا يُعتبرون أكثر راديكالية من الاشتراكيين، وكان من أوائل الشيوعيين الألمان شخص يدعى (موشيه هس) ناقش الشيوعية بشكل مطول مع إنجلز عندما تقابلا في كولونيا، ونقل له مذهباً يقوم على الجدل والثورة الأخلاقية. وفي مقالاته التالية، لم يتناول إنجلز تقريباً أيَّ موضوع سوى إعلان أنه أصبح شيوعياً.

في عام 1847 تولى إنجلز مهمة التحدث إلى الصحافة عن القضية الشيوعية والترويج لها، تلك القضية التي اتخذت شكلاً منظماً تمثل في المراسلات الشيوعية في بروكسل. وكان الهدف الأساسي هو جعل الاشتراكيين الألمان يتواصلون مع الاشتراكيين الإنكليز والفرنسيين. وذهب إنجلز بنفسه إلى باريس لتنظيم العمال الألمان، وأخبر اللجنة أنه حصل على دعم لتعريف الشيوعية بأنها: تحقق مصالح طبقة البروليتاريا من خلال إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج واستبدالها بالملكية المشتركة وذلك بالتعاون مع قوى الثورة الديمقراطية.

ذهب إنجلز أيضاً إلى لندن، وجعل مهمته في العموم هي المساعدة في تبني المجموعات الشيوعية المبادئ الماركسية بدلاً من مبادئ الهيغليين الشباب، أو غيرها من المصادر. انعقد أول مؤتمر للشيوعيين في لندن في صيف عام 1847 وقدم فيه إنجلز مسودة (البيان الشيوعي) بغرض المناقشة، وأعد إنجلز نسخة أخرى من تلك من أجل ماركس، حملت اسم (مبادئ الشيوعية) وفي أواخر ذلك العام حضر كلاهما المؤتمر الثاني الذي عقد في لندن في أواخر نوفمبر أوائل ديسمبر. وطُلب من كل من كارل ماركس وفريدرك إنجلز استخدام هذه المسودة وغيرها في تشكيل وثيقة نهائية يمكن لكل الشيوعيين الالتزام بها. فكان (البيان الشيوعي) الذي صدر في طبعة خاصة باللغة الألمانية في لندن في شهر شباط (فبراير) عام 1848.

 

إنجلز صحفياً  

سأختار واحدة من مقالات فريدريك إنجلز التي كتبها في بداية شبابه وعمله في الصحافة المحلية الألمانية لأنه في الثامنة عشرة من عمره كان صحفياً لامعاً، تتسم مقلاته بالنقد اللاذع، الأمر الذي أدى إلى نفاد طبعة كاملة من إحدى صحف مدينة هامبورغ التي كان يكتب لها. وكانت مقالات (رسائل من فوبرتال) التي نشرها في ربيع عام 1839 هجوماً مثيراً على النفاق في بلدتي إلبرفليد وبارمن بمحاذاة وادي نهر فوبر، وتلك هي منطقة راينلاند التي ولد فيها فريدريك إنجلز في الثامن والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1820. ونظراً لأن عائلة إنجلز كانت على مدار أجيال عائلة ثرية تمتلك المصانع، فقد استخدم إنجلز الشاب اسماً مستعاراً، وبالرغم من ذلك، لم تكن هويته المرادفة لاسمه المستعار (فريدريك أوسفالد) بسرٍّ محجوب عن أصدقائه، وبمجرد أن انكشفت تلك الهوية السرية، ظهرت الشخصية الجدية لإنجلز الذي قال: كل ما كتبته كان مبنياً على بيانات مثبتة شهدتها بعينيَّ أو سمعتها بأذنيَّ.

استخدم إنجلز عينيه وأذنيه استخداماً ناجحاً وفعالاً إلى أبعد الحدود، وكان تصويره الظروف الاقتصادية والاجتماعية لذلك المجتمع الصناعي الصغير في واقع الأمر تصويراً دقيقاً وحاداً للغاية. وتضافرت عوامل شتى مثل عمالة الأطفال، والغرف المكتظة التي تضيق بأهلها، والعمل الشاق، وأمراض الجهاز التنفسي، والفقر المدقع، والإفراط في تناول الخمور، ومرض الزهري، وأبخرة الفحم، وغبار المصانع، وقلة الأكسجين، لتسفر عن المعاناة الشديدة لسكان وادي نهر فوبر. ونظراً لكون (رسائل من فوبرتال) هجوماً على النفاق السائد في المنطقة التي كان يعيش فيها، وعلى ظلاميتها وزيفها وذوقها الفاسد، فقد كانت تلك الرسائل نابضة بالواقعية الواضحة على نحو استثنائي، ولقد كان تقديم سرد قائم على شهادة عيانية لأوائل العصر الصناعي هو بالتأكيد أساس وجهة نظر إنجلز، وهذ ما أكسب العمل مزيداً من الإثارة والقدرة على التنبؤ بالمستقبل.

 

إنجلز ماركسياً

كان إنجلز أول الماركسيين، وكان تأثيره على الماركسية كبيراً، فقد كتب عدداً هائلاً من المقالات والكُتيبات، إضافة إلى عدد كبير من الكتب حول الماركسية طوال الفترة الممتدة من عام 1849 وحتى وفاته عام 1895. وفي كثير من هذه الأعمال فسَّر فرضيات ووجهات نظر كارل ماركس، التي أسهم فيها إلى حد كبير. علاوة على ذلك، فقد أصبح مراجعاً ومحرراً لأعمال ماركس إذ كان يكتب المقدمات للطبعات الجديدة من كتبه، وكذلك إعداد مخطوطات الأعمال الخاصة بماركس للنشر بعد وفاته عام 1883.

كان إنجلز كريماً في وقته وماله مثلما كان كريماً في نصائحه. إن إحسانه إلى ماركس وأسرته أنقذتهم في مرات عديدة من مصائر أشد بلاء من الفقر والشقاء اللذين عاشوا فيهما، ففي عام 1870 كان إنجلز قادراً على منحهم قدراً من الاستقلال المادي، في الوقت الذي كان يُوفر لنفسه هذا الاستقلال، واستفاد الكثير من المهاجرين والزائرين الاشتراكيين من كرم ضيافته ومساعداته، كما حصلت بنات ماركس وكذلك أحفادهم الذين بقوا على قيد الحياة بعد وفاة إنجلز، على جزء من تركته الكبيرة بعد وفاته بسرطان الحنجرة في 5 آب (أغسطس) 1895.

في السنوات التي أعقبت وفاة ماركس عام 1883 قدَّم فريدريك إنجلز مقدمات لطبعات جديدة من (البيان الشيوعي) الذي ألفاه معاً، ومن كتاب (حالة الطبقة العاملة في إنكلترا) ولثمانية من أعمال ماركس وهي: الحرب الأهلية في فرنسا، النضال الطبقي في فرنسا، انقلاب الثامن عشر من برومير للوي بونابرت، بؤس الفلسفة، خطاب عن التجارة الحرة، العمل المأجور ورأس المال. قدَّم لكل هذه الأعمال ملاحظات وتغييرات تحريرية، ولكن مشروعاته الأساسية باعتباره محرراً لماركس تمثلت في المجلدين الثاني والثالث من كتاب (رأس المال) مع المقدمات، المأخوذين من مخطوطات ماركس غير المنشورة.

العدد 1102 - 03/4/2024