آفة الفساد تُعرّش بخيلاء على الإنسانية وحقوقها

إيمان أحمد ونوس: 

تحتفل الأمم المتّحدة في التّاسع من كانون الأول من كل عام باليوم العالمي لمكافحة الفساد، كما تحتفل في العاشر من الشهر ذاته باليوم العالمي لحقوق الإنسان. وهنا، أتساءل: ألا يحق لنا الشعور بأن تتالي المناسبتين فيه عبرة غير مرئية ربما، وفي الوقت ذاته يحمل في طيّاته مفارقة غير بريئة من حيث أن الفساد لا شكّ يغتال كل الحقوق مهما كانت بسيطة، بينما حماية الحقوق وصونها وممارستها بكل حرية يحمي البلاد والشعوب من أخطر آفة تغتال الحق والعدل والكرامة؟ أعتقد أن شعار احتفالية هذا العام يُشير إلى هذا بشكل مباشر حين يقول: (احفظوا حقوقكم، واضطلعوا بأدواركم، وقولوا لا للفساد).

الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس قال بمناسبة الاحتفالية:

(إن الفساد فعل إجرامي لا أخلاقي وخيانة للأمانة المستودعة من الشعب، وضرره يكون أشدُّ جسامة في أوقات الأزمات، كما في الوقت الحالي الذي يكابد فيه العالم جائحة كوفيد-19، والتعامل مع هذا الفيروس يخلق فرصاً جديدة لاستغلال ضعف الرقابة وعدم كفاية الشفافية، حيث يتمُّ تسريب الأموال بعيداً عن الناس في أوقات هم فيها أحوج ما يكونون إلى تلك الأموال). ويُضيف في تغريدة له على تويتر: (الفساد يعني خيانة الشعوب واستنزاف مواردها ويؤدي إلى إضعاف الديمقراطية. يجب علينا أن نُسلّط الضوء على حاجة العالم للتكاتف من أجل القضاء عليه وتحقيق العدالة والمسؤولية المطلوبة).

أمّا الموقع الرسمي للمنظمة الدولية فقد قال: (إن الاحتفال باليوم العالمي لمكافحة الفساد يُعدُّ مناسبة لنتذكّر مسؤولياتنا تجاه التصدي للفساد، مشيرة إلى أن هذه الجهود يجب أن يشارك فيها المسؤولون الحكوميون والموظفون المدنيون والقطاع الخاص والمجتمع المدني).

بالتأكيد، يمكن القول إن الفساد ظاهرة عالمية ولا تقتصر على مجتمعات أو بلدان دون غيرها، وهو كما وصفه أحدهم (ظاهرة اجتماعية واقتصادية وسياسية مُعقّدة تؤثّر على جميع البلدان باعتبارها تشمل جميع الاختلالات التي تمسُّ الجانب الاقتصادي، والسياسي، والأخلاقي، والاجتماعي لأي دولة، وتعوق عملية التنمية، وعليه فإن الفساد يقوّض المؤسسات الديمقراطية ويُبطئ التنمية الاقتصادية ويساهم في عدم الاستقرار الحكومي، لأنه يهاجم أسس المؤسّسات الديمقراطية من خلال تشويه العمليات الانتخابية، إضافة إلى تحريف سيادة القانون وخلق مستنقعات البيروقراطية. وبالتالي، فإن عملية التنمية الاقتصادية ستعاني من التقزّم لأنه من المستحيل التغلّب على (تكاليف البدء) المطلوبة).

فإذا ما تمعّنّا جيداً بهذا الكلام، ألا نجد أنه يتطابق والواقع في المجتمع السوري اليوم في ظلّ استشراء هذا الفساد وعلى كل المستويات والاتجاهات الفردية والعامة؟ لاسيما أنه ترك الغالبية العظمى من السوريين تحت خطِّ الفقر بدرجات غير مسبوقة عالمياً، وبالتالي فإنه وعبر قادة الفساد وأمرائه المتحكّمين قد اغتال أبسط حقوق الناس في العيش بكرامة تليق بأدنى حدود إنسانيتهم، تلك الحقوق التي يُحتفل بها في اليوم التالي للاحتفالية العالمية لمكافحة الفساد، والتي تحمل هذا العام شعار (المساواة- الحدِّ من التفاوتات، والدفع قدماً بإعْمَال حقوق الإنسان). المساواة التي تنص عليها المادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والتي تقول:

(يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضاً بروح الإخاء).

فهل يتساوى السوريون في الكرامة والحقوق رغم أنهم يمتلكون العقل والوجدان الذي فرض عليهم التصدي لأبشع وأفظع حربٍ قذرة رغم أنه لم يكن لهم فيها ناقة أو جمل، لكنهم تحمّلوا وزرها فقط لأنهم اختاروا التصدي لها والبقاء في وطن كانوا يرونه من حقهم ليحفظ كرامتهم من التشرّد واللجوء والنزوح الذي طال الملايين، لكن الفساد، الذي عمّ مزهوّاً ممتطياً صهوة الوطنية التي قادها تجّار الحروب والأزمات، وفاقدو الضمير، ممّن أثروا فجأة على حساب دماء ودمار السوريين قد حرمهم ليس فقط كرامتهم، بل سلبهم أيضاً أبسط حقوقهم في لقمة العيش وحبّة الدواء وبعض الدفء في شتاء قاسٍ لا يرحم. أولئك السوريون الذين أرادوا فيما مضى أن يضطلعوا بدورهم لمحاربة الفساد وحماية حقوقهم التي أشار إليها شعار احتفالية مكافحة الفساد، فكانت النتيجة حرباً شعواء عبثية اغتالت بهمجيتها وما رافقها من فساد داخلي وخارجي جميع حقوقهم.

لقد ساد الفقر والجوع والبطالة غالبية المجتمع السوري بما يُمثل أفظع الانتهاكات لحقوق الإنسان الأساسية، انتهاكات سببها الرئيسي عدم امتلاك أصحاب القرار القدرة والإرادة الحقيقية لمعالجة الأسباب الجذرية الداخلية الكامنة وراء نشوب تلك الحرب، وبالتالي استمرار التمترس بالنهج ذاته من عدم الاكتراث لمعاناة الناس المستمرة والمُتفاقمة منذ ما قبل الحرب وحتى اليوم، إضافة إلى دعم واستمرار تفشّي الفساد الذي ساد فشمل المجتمع برمته، عبر سيادة ثقافة الجشع والانتهازية والأنانية، بحكم انعدام الحيلة والقدرة على تلبية أبسط الحقوق والاحتياجات الأساسية التي اغتالها فساد الهيئات والدوائر الأعلى.

بالتأكيد، هناك محاولات لمحاربة الفساد يتناولها الإعلام بين الحين والآخر.. لكن، لا يمكن الوصول إلى نتائج إيجابية إن لم يتم اجتثاث الفساد من جذوره ابتداءً من أعلى المستويات إلى أدناها، ومحاربة ومحاسبة جميع الفاسدين أيّاً كان موقعهم ومكانتهم.

إن السوريين اليوم بحاجة ماسّة إلى من ينقذهم ممّا هم فيه، وهذا غير ممكن إلاّ بحلٍّ عادل ووطني للأزمة السياسية المُستعصية، عبر حوار سوري_ سوري وبعيداً عن الأجندات والمصالح الدولية القائمة أساساً على استمرار خرابنا ودمارنا وتمزيق البلاد إلى كانتونات تخدم تلك المصالح. نعم إننا وكما قال أحدهم (بحاجة إلى عقد اجتماعي جديد نتقاسم بموجبه السلطة والموارد والفرص بشكل أكثر إنصافاً ويضع أُسس الاقتصاد المُستدام القائم على حقوق الإنسان).

فهل هذا بكثير على السوريين الصامدين منذ أكثر من عشر سنوات في وجه أشنع الحروب وأفظعها.. ومثلها حرب الفساد وطغيان حيتانه الذي اغتال أبسط مقوّمات وجودنا!؟

العدد 1102 - 03/4/2024