الفساد ساد.. والطريق مسدود

حسين خليفة:

بكل إباء واعتزاز، وبهيبة المنتصر، نؤكّد احتفاظ بلادنا بالمركز قبل الأخير في ترتيب دول العالم ضمن مؤشّرات (مدركات الفساد).

هذا ما تضمنه تقرير منظمة الشفافية العالمية السنوي، وهي منظمة دولية غير حكومية تهتم بمؤشرات الفساد في دول العالم، أُسِّست عام 1993، مقرها برلين، ويعتبر (مؤشر مدركات الفساد) الذي تصدره سنوياً أحد أهم الإصدارات البحثية لها، وأبرز مراجع تحديد مؤشرات انتشار الفساد في الدول التي يدرسها التقرير.

ويستند المؤشّر إلى مقياس (0 _ 100) ويتناسب انتشار الفساد عكسياً مع رصيد الدولة من هذا المؤشّر، فيكون الصفر هو أعلى معدلات الفساد، والمئة تعني انعدام الفساد نهائياً.

يستند حساب المؤشّر على مسح وتقييم خبراء مختصين ومستقلين لرصد مستويات انتشار الرشوة والاختلاس والمحسوبيات في البلدان موضوع الدرس، إضافة إلى رصد قوانين مكافحة الفساد ومستوى تطبيقها.

طبعا سيقفز المتقافزون والمزاودون ليتهموا هذا التقرير، كما كل تقرير للمنظمات الدولية لا يتماشى مع أهوائهم، بأنه مغرض ومدسوس، وتعده مؤسسات تديرها الماسونية العالمية والصهيونية والإمبريالية، وغيرها من مصطلحات وشعارات تعبنا منها وتعبت منّا.

سورية كانت تحتل المركز 144 (من 180 دولة) برصيد 26 نقطة عام 2012، ثم انحدرت الى المركز 159 برصيد 20 نقطة، ثم المرتبة 154 برصيد 18 نقطة عام 2015، وفي عام 2017 واصلت هبوطها فأحرزت المركز 178 برصيد 14 نقطة، وبقيت محافظة على مركزها حتى عام 2020 برصيد 14 نقطة.

ولنا وطيد الأمل في الصمود والحفاظ على مركزنا ما قبل الأخير حيث تقبع خلفنا الصومال وجنوب السودان (12 نقطة)، أو التراجع إلى المركز الأخير لنقهر الصومال وجنوب السودان، لنصبح الأول عالمياً في انتشار الفساد عن جدارة واستحقاق.

بعد ستين عاماً من الحكم الوطني التقدمي القومي الاشتراكي تنحدر بلادنا إلى ذيل القائمة بمستوى انتشار الفساد؟!

طبعاً تؤكّد المنظمة أنه كلما كانت المجتمعات أكثر ديمقراطية وانفتاحا وشفافية، سواء في الانتخابات على تعدّد مستوياتها أو في المشاركة الشعبية في اتخاذ القرارات، إضافة إلى استقلالية القضاء وفعاليته في محاسبة متجاوزي القوانين واللصوص، زادت قدرتها على مكافحة الفساد. وهذه بديهية، لكن المشكلة أنّ حكومات تحالف العسكر والفساد يتناسونها أو ينسونها ويمضون في فسادهم وإفسادهم وخراب بلدانهم.

الديمقراطية وحقوق الانسان هما المدخل الأول والضروري للبدء بمكافحة الفساد، إذ كيف يمكن مساءلة فاسدين كبار يدخلون في حلف مدنس مع القابضين على سلطة غير منتخبة ولا تخضع للمساءلة؟

كيف يمكن فضح الفاسدين ومحاربتهم إذا كان الإعلام مقموعاً وخائفاً ومدجّناً، ولا عمل له سوى التسبيح بحمد الحاكم وتعداد مآثره التي تقترب من حدود الآلهة بل تتعداها أحياناً؟

كيف يمكن تطبيق القوانين على الفاسدين واللصوص وناهبي المال العام إذا كان القضاء تابعاً للسلطة التنفيذية ولا يستطيع تجاوز سلطة وزير؟!

في بلاد يغيب فيها المجتمع والأحزاب والحراك الأهلي، وتصبح المنظمات الأهلية والجمعيات والنوادي مجرّد هياكل بعيدة عن جمهورها ومنتسبيها، ولا همّ لها سوى إرضاء الحكومة وتنفيذ ما تريده ولو كان على حساب من تدعي تمثيلهم وضدّ مصالحهم، كيف ستتمُّ محاربة الفساد؟

في بلاد يُسجن فيها أصحاب الرأي المختلف، وتعطى الحرية للصوص وناهبي المال العام في تبييض أموالهم، بل والدخول إلى المؤسّسات التشريعية بصفتهم رجال أعمال، كيف ستتمُّ محاربة الفساد؟

هكذا نعود الى البداية مرة أخرى، إنّ مفتاح أي إصلاح اقتصادي، مفتاح أي محاربة للفساد حتى اجتثاثه من جذوره، هو الديمقراطية وحقوق الإنسان.

ومن دونهما سيبقى كل حديث أو إجراءات لمكافحة الفساد مجرّد جعجعة بلا طحين، مجرّد إجراءات شكلية ولعبة تبديل طرابيش، فالمدخل الوحيد الذي لا بدّ منه لإصلاح الاقتصاد ومحاربة الفساد هو الإصلاح السياسي، وبناء الدولة المدنية الديمقراطية التي تقوم على فصل السلطات ودستور ديمقراطي تعددي، ومؤسّسات منتخبة فعلياً، مع إعلام حر، وقوى وأحزاب ونقابات ومنظمات مجتمع أهلي تحرس هذه الديمقراطية وتعززها.

العدد 1104 - 24/4/2024