من هنا مرَّ الشاعر ناظم حكمت

عبد الرزاق دحنون:

اقرأ لنا قصيدة يا ناظم حكمت!

قرأ:

(أنا شيوعي

أنا الحبّ من مفرق رأسي حتى أخمص قدمي

الحبّ أن ترى، تفكر، تفهم

الحبّ طفل يولد في مطلع فجر أحمر

الحبّ أرجوحة معلقة بين نجمتين متألقتين في السماء

الحبّ أن تعرف كيف تسقي فولاذ الجسد

أنا شيوعي

أنا الحبّ من مفرق رأسي حتى أخمص قدمي).

أتجول في أزقة مدينة إزمير القديمة خلف كورنيش ساحة كوردون أبحث فيها عن مطارح خطت فيها أقدام الشاعر ناظم حكمت عندما أقام هنا بعض الوقت، فقد عمل الشاعر في شبابه مع رفيق له في مدينة إزمير، في مطرح قريب من كورنيش كوردون، في طباعة جريدة الحزب الشيوعي التركي (المطرقة والمنجل) عام 1924 يختبئون نهاراً من عيون الشرطة ويعملون ليلاً على ضوء مصباح الكاز. ألمح هناك في الزاوية ذلك المقهى الذي حكى عنه في كتابه الأخير (العيش شيء رائع يا عزيزي)، هل هو المقهى نفسه يا ترى؟ هل شرب الشاي وتناول الفطائر بالجبنة هنا في أحد المقاهي المطلة على شاطئ ساحة كوردون في إزمير؟  هل خطا في تلك الأزقة القديمة التي تغيرت معالمها ومالت ملامحها نحو الحداثة أكثر فأكثر؟ عشرات المقاهي مصفوفة جوار بعضها في الأزقة المتوارية خلف كورنيش كوردون. يجلس روادها لتناول الشاي وتبادل الحديث. اقتربتُ من إحدى النادلات الجميلات، سألتها: أنا آسف يا سيدتي لتطفّلي، ولكن، هل تناول شاعرنا الكبير ناظم حكمت الشاي في مقهاكم؟ ابتسمت بودّ. وقالت: أنا آسفة يا سيدي، ربما، من يدري؟

تركتني النادلة في حيرة من أمري وذهبت لشأنها. وها أنا ذا أخطو على هذه الحجارة السوداء التي ترصف الطرقات، هل هي الحجارة نفسها التي سار عليها ناظم حكمت متجهاً صوب البحر؟ البحر لم يتغير. مياه بحر خليج مدينة إزمير ما زالت تخفق خفقاً خفيفاً في الريح. هل استنشق ناظم حكمت من هذه النسمات الطريات التي تعبق برائحة البحر؟ لسان من الماء يمتد في عمق اليابسة تحيط به المرتفعات الجبلية وتُحلِّق النوارس جماعات في سماء زرقاء صافية.

يقول ناظم حكمت:

ولدتُ في اليوم السابع من شهر شباط (فبراير) عام 1902 بمدينة سالونيك التي تقع في شمال اليونان. لم أعد قطّ إلى مسقط رأسي، أنا لا أحب الرجوع إلى الوراء، عندما كنتُ في الثالثة كانت وظيفتي في الحياة هي أن أكون حفيد حكمت ناظم باشا (مدير المطبوعات وقنصل في وزارة الخارجية العثمانية)، وكان جدي ناظم باشا ذات يوم والياً على حلب. وأمي عائشة جليلة خانم أرستقراطية، والدها أنور باشا تربوي عظيم، كانت رسامة وتجيد الفرنسية كما كانت عازفة بيانو. كتاباتي منشورة في ثلاثين أو أربعين لغة، لكنها ممنوعة في بلدي تركيا، بلغتي التركية، السرطان لم يقترب مني بعد، وليس شرطًا أن يقترب، لن أكون رئيس وزراء أو شيئاً من هذا القبيل، أبداً، ولا أهتم أصلاً بهذه الأشياء، لم أدخل حرباً، ولم أنزل إلى المخابئ في منتصف الليل، ولم أمشِ في طريق تحت طائرات منقضّة، لكنني وقعت في الحب في الستين تقريباً، باختصار يا رفاق، حتى إذا كنتُ اليوم أئنّ من الحزن، يمكنني أن أقول إنني عشتُ كإنسان، ومَنْ يدري، كم سأعيش أكثر، وماذا سيحدث لي أيضاً. فاشهد يا شعب تركيا، وآن لكَ أن تشهد.

أُعيدتْ له الجنسية عام 2009 بعد مرور 46 عاماً على وفاته، التي حدثت في موسكو إثر أزمة قلبية في اليوم الثالث من شهر تموز (يوليو) عام 1963.

يُعد ناظم حكمت واحداً من الأسماء البارزة في الشّعر التركي المعاصر، وقد كان في شعره وحياته مُخلصاً لأفكاره وتوجهاته ومخلصاً لجميع القضايا الإنسانية، رافضاً عدم المساواة، والأنانية، والبربرية التي تنتهجها الرأسمالية في شكليها القديم الكلاسيكي أيام ماركس أنجلز ولينين، والحديث بعد الحرب العالمية الثانية، كان داعية في شعره وفي نصوصه النثرية المسرحية منها والروائية إلى المحبة الخالصة والأخوة الصافية والطهر والبراءة. وقد تُرجمت أشعاره إلى أكثر من خمسين لغة، وحصلت أعماله على الكثير من الجوائز.

أتابع بحثي في الأزقة القديمة والشوارع الحديثة على كورنيش كوردون في إزمير علني أجد لوحة، إشارة، خطوات مطبوعة في حجر الطريق، سهماً يرشدني إلى عبارة تقول: من هنا مرَّ الشاعر ناظم حكمت. أنفاسه المعطَّرة برائحة التبغ والتنباك تعبق بالمكان، وأصوات تحريك ملاعق السكر في كاسات الشاي ترن في الآذان، والكلام يتدفق من أفواه المارة حلواً، رقيقاً، كتدفق السكر الأبيض في كفة ميزان. هذا عالم ناظم حكمت الحقيقي. كم أحبَّ الناس، وكم كتب عنهم في كتابه المُدهش (مشاهد إنسانية)! كان ذلك يكفيني لأفرح بأنني أمشي على خطاه. وأتنفس الهواء الذي كان يتنفس منه.

أخيراً اقتربتُ من رجل عجوز قارب الثمانين من عمره يجلس على مقعد حديقة في ساحة كوردون ويقرأ في جريدة. قلت وقد اختلطت كلماتي العربية بالتركية:

مرحباً يا رفيقي، هل تعتقد أن شاعرنا الكبير ناظم حكمت مرَّ من هنا؟

ترك الرجل العجوز قراءة الجريدة، ثمَّ نظر في وجهي ملياً، تأملني من مفرق رأسي حتى أخمص قدمي. هل أعجبه أن أقول شاعرنا الكبير ناظم حكمت؟ سألني:

هل أنت شيوعي يا رفيقي ومن مريدي الشاعر الكبير ناظم حكمت؟ أجبته وكانت الكلمات تتدفق تدفق السكر في كفة ميزان: أنا شيوعي من مفرق رأسي حتى أخمص قدمي.

تهلل وجهه وابتسم ثمَّ استوى في مقعده وقال لي: اجلس هنا إلى جانبي يا رفيقي! وأشار إلى المقعد، فجلستُ. وغبنا عن الدنيا وأهلها في حديث شيِّق طويل. كان يُتقن العربية الفصحى ويحفظ المصحف في صدره. أخذنا الحديث إلى تلك الفترة التي عاش فيها ناظم حكمت في مدينة إزمير، وعن الأماكن التي من المحتمل بأنه مرَّ بها. نعم، كان حديثاً ممتعاً قال الرجل العجوز في نهايته وأنا أودعه: آمل أن تجد يا أخي، ذات يوم، لوحة في ساحة كوردون في مدينة إزمير على شاطئ بحر إيجة كتب عليها: من هنا مرَّ شاعرنا الكبير ناظم حكمت.

العدد 1102 - 03/4/2024