يا صديقي.. كلّنا عبيد!

حسين خليفة:

الرق بشكله التقليدي، أي شراء الرقيق الأسود أو الأبيض (النساء) أصبح في أضيق حالاته في القرن العشرين وما تلاه بعد ثورات العبيد وتمردهم، وحركات الإصلاح الاجتماعي والسياسي والثورات الكبرى التي شهدها التاريخ (الثورة الفرنسية، ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا، ثورات النساء…الخ)

لكن العبودية استمرت وتوسعت، العبودية التي هي ابنة الحاجة، فحاجتك إلى آخر، أيّاً كان هذا الآخر (زوجاً، أخاً كبيراً، ربّ عمل، صاحب سلطة، بائع كلام من رجال دين ومبشرين وشعراء…) هي المدخل إلى العبودية حين تصبح هذه الحاجة حصاراً لك، لا يمكنك الاستغناء عن مستعبِدك أو تركه.

العبودية بأشكالها وتدرجاتها التي ذكرناها آنفاً يعرّفها البعض بأنها (أوضاع استغلال لا يمكن للفرد رفضها، أو الفكاك منها بسبب التهديدات أو العنف أو القهر أو الخداع أو استغلال السلطة).

لننظر حولنا كم من أشكال العبودية والرق نراها يومياً.

أبرزها وأوضحها للملأ هي العبودية المباشرة، الرق، ما زال هناك (في إفريقيا خصوصاً) من يشتري العبيد ويعاملهم كملكية خاصة، كما لو أنهم حيوانات يقوم بتربيتها ويُسخّرها في أعمالها.

الأمثلة كثيرة وتملأ وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي.

الخدم الذين يعملون في البيوت، وكل أوقاتهم مُسخّرة لسادتهم، تاركين أسرهم وعائلاتهم إن كانت لهم أُسَرْ أساساً، تاركين مباهج الحياة إلاّ ما يسرقونه خلسة من مرافقة أبناء الأسياد في رحلاتهم ومشاويرهم.

حتى العامل/ة في منشأة خاصة لا تنظّم عقود عمل، وتتهرب من تسجيل عمالها في التأمينات والنقابات، يعيش شكلاً من أشكال العبودية، إذ يتحكّم ربُّ العمل بمعيشته وببقائه على رأس عمله، ويتعرّض العاملون (والعاملات خصوصاً) للكثير من الابتزاز الجسدي والجنسي أحياناً مقابل الحصول على لقمة العيش والعمل.

الطفلة التي يقوم أهلها بتزويجها من رجل يقارب أباها في السن، تعيش عمرها الغض لتلبية رغباته وطلباته، وطلبات أولاده وأهله أحياناً، أليست شكلاً فاقعاً من أشكال العبودية.

ممثلات أفلام البورنو، والكثير من عارضات الأزياء يتمُّ شراؤهن كرقيق أبيض في سنٍّ مبكرة، ثم يجري استغلالهن في هذه المهن القاتلة للروح قبل الجسد، بالنسبة لممثلات (وممثلي) البورنو لا داعي لشرح مأساتهم/ن، إذ يتمُّ شراؤهم/نَّ جسداً وروحاً وامتهان إنسانيتهم/ن حتى (تنتهي صلاحيتهم/ن)، فيرمون للفقر والجوع والمخدرات.

وقد قرأنا كثيراً عن عارضات أزياء يعشن على تفاحة في اليوم حتى يحافظن على رشاقتهن ولا يطردهن رب العمل، ويمُتن في سنٍّ مبكرة دون أن يدري بهنّ أحد، فليست كل العارضات كيم كاردشيان، أو حليمة عدن الصومالية التي غزت عالم الأزياء، وحقّقت حلم الشهرة والثراء، هناك مئات الألوف من العارضات يتضورن جوعاً وهنّ يعرضن منتجات دور الأزياء الفاخرة، ويمتن وهن يحلمن بلبس ما يعرضنه.

فتيات الإعلان، راقصات التعرّي، وغيرها من المهن التي تعتمد على تسليع جسد المرأة لجني الأرباح الطائلة من قبل أصحاب رؤوس الأموال، كلها تحمل في باطنها عبودية لا تُخفى على أحد رغم كل البريق الظاهر فيها.

وفي بلدان العالم الثالث تزداد حالات العبودية لتصبح حالات جماعية كاسحة، إذ يصبح المواطن عبداً لسلطة مستبدة قاهرة، ولرجل الدين، ولشيخ القبيلة، وكبير العائلة، الى آخره من تدرجات العبودية المشرقية.

بقي أن نشير إلى حالة مؤلمة ولافتة طُرحت في العديد من الأعمال الأدبية والفنية والفكرية، وهي اندماج العبد في عبوديته، إدمانه لها، ودفاعه المستميت عنها.

هذه المظاهر (إدمان العبودية والدفاع عنها من قبل العبد نفسه) نجدها غالباً في حالات العبودية الجماعية خصوصاً، مثل قطاعات من شعب عاش عقوداً تحت ظلِّ دكتاتور، فتصبح كثير من الأجيال التي ولدت وعاشت زمن الاستبداد أسيرة لفكرة أنّ المستبد حاجة ضرورية لا يمكن الاستغناء عنها ولا استبدالها، وأنه كائن أرقى من البشر، بصفات تقترب من الآلهة.

هذه هي عبودية التعوّد، ويدرسها علم النفس كثيراً، ومن المراجع المهمة في هذا الصدد (سيكولوجية الإنسان المقهور)، إذ يصبح بعض العبيد أداة بيد السيد لضرب أقرانهم ممّن يحلمون بالحرية أو يسعون إليها، والشواهد في التاريخ القريب والبعيد أكثر من أن تُحصى، من ثورة سبارتاكوس في روما القديمة  إلى ثورة الزنج في العهد العباسي إلى بعض الثورات المعاصرة، فقد وجد العبيد المتطلعون إلى الحرية أنفسهم في مواجهة أقرانهم الرافضين للحرية، معتبرين أنها_ الحرية_ تُقلق طمأنينتهم وراحتهم ،لأنهم اعتادوا على هذه العبودية ومرتاحون لها ويخافون من أي تغيير، طبعاً يتأثّر هؤلاء ببروغاندا السلطة المستبدّة، ويردّدون مفرداتها عن المتمردين والمخربين والعملاء الذين يريدون تغيير الأوضاع الساكنة وتحريك المياه الراكدة والآسنة.

في المحصلة نستطيع القول: كلنا رقيق بنسب متفاوتة في عصر التقنيات والروبوت، عصر الخوف والسلطات الشمولية على اختلافها واتساعها (سياسية، دينية، عقائدية….)، رقيق للحاجات التي توسعت وازدادت حتى استعبدتنا.

من منّا يستطيع العيش الآن بلا موبايل أو تاب أو إنترنت أو كهرباء؟

لكن مهلاً، يبدو أننا نحن السوريين نوشك على التحرّر من كل هذه الحاجات في هذه الأوضاع المزرية، إذ تتقلّص ساعات وصل الكهرباء ومعها الإنترنت وتوابعها، ونكاد نصبح كوكباً مظلماً معزولاً عن العالم إن بقينا على هذا المنوال.

العدد 1104 - 24/4/2024