أرض البرتقال الحزين

صفوان داود:

(… ومضت تلك الليلة قاسية مرّة بين وجوم الرجال، وبين أدعية النسوة، وعندما بدأت رأس الناقورة تلوح من بعيد، وقفت السيارة، ونزل أبوك من جانب السائق، ومدّ كفّه فحمل برتقالة منها، أخذ ينظر إليها بصمت، ثم انفجر يبكي كطفل بائس)_ (غسان كنفاني، أرض البرتقال الحزين)

في عام ٢٠١٥ تجاوزت البساتين المزروعة بالحمضيات معدل ٩٠% من مجموع الأراضي المروية في محافظة اللاذقية، في حين بلغت ٢٣% منها في محافظة طرطوس، بمجموع كلي لكلا المحافظتين حوالي 14.5 مليون غرسة غطت نحو ٤٢ ألف هكتار.

وكشفت أرقام مكتب الحمضيات في وزارة الزراعة عن انخفاض حاد في إنتاج الحمضيات لهذا العام، تجاوز ٢٧ % مقارنة مع إنتاج العام الماضي، وفق تقديرات إنتاج أولية نحو ٥٦٣ و٢١٣ ألف طن لمحافظتي اللاذقية وطرطوس على التوالي. مع ذلك ورغم انخفاض كمية الإنتاج الذي يفترض من الناحية النظرية أن يدفع بأسعار الحمضيات للارتفاع، وجدنا أنه انخفض بشكلٍ حادّ إلى نحو ٢٠ إلى ٢٥% عن أسعار العام الماضي. هذا الوضع المخالف للقوانين الاقتصادية والمنطق التجاري يفرض معرفة السبب أو الأسباب؛ خاصة وأن شريحة واسعة من العائلات في الساحل السوري تنتظر هذا الموسم لتبقى (صامدة) للوضع المعيشي الخانق.

يعود أحد الأسباب -وهو سبب تاريخي بالمناسبة- إلى الظاهرة الغريبة التي تتكرر كل عام وبالأسلوب نفسه من منافسة مادة الموز. مع بداية شهر تشرين أول من هذا العام وصل سعر كيلو الموز المستورد في اللاذقية إلى ١٨ ألف ليرة سورية، ويا للغرابة وفي نهاية الشهر نفسه ومع دخول أولى بواكير قطف الحمضيات إلى سوق الهال المحلي، هبط سعر الموز إلى ٣٠٠٠ ليرة. وإذا سألت المزارعين والبائعين على حد سواء: مَن هو المستفيد؟ فالجواب واحد، وكيف يتم تغاضي مسؤولي المحافظة عنه مقابل (الموزة الذهبية).

تضرّرَ مزارعو الحمضيات هذا العام أيضاً بسبب دخول الموسم الحالي مع ارتفاع أسعار المحروقات، ما أدى إلى ارتفاع تكاليف النقل وما ترتب ذلك على انخفاض صافي الأرباح. رغم ذلك لا يفسر السببان السابقان كلياً انهيار أسعار الحمضيات الحالي، والحقيقة سوف تأتي على لسان رئيس لجنة التصدير في غرفة زراعة اللاذقية، في أن تكلفة شحن البراد الواحد إلى العراق تفوق ١٨ مليون ليرة سورية، وقال في تصريح لصحيفة محلية إن الحمضيات السورية لا تستطيع منافسة تلك القادمة من إفريقيا، بسبب أنه من أصل ٦ آلاف من العملة الصعبة تكلفة نقل البراد الواحد إلى العراق يذهب منها ٢٢٩٠ بين اللاذقية ومعبر البوكمال. ولأننا لا نتجرأ على إعطاء تفسير علمي فإن التفسيرات الميتافيزيقية هي الأكثر قبولاً هنا. طبعاً اختفاء هذا المبلغ على طريق البادية ليس نتيجة التبخر أو قلة الغطاء النباتي، وإنما ربما نتيجة وجود تماسيح من فصيلة خاصة تقتات على أتاوات العملة الصعبة. الحقيقة أن مبلغ ٢٢٩٠ كافٍ لأن يخرج الحمضيات السورية من جميع أسواق العالم وليس فقط سوق العراق.

وكنا سبق أن ذكرنا في مقالة سابقة عن محاولة (هيئة دعم وتنمية الإنتاج المحلي والصادرات السورية) تعزيز الصادرات، عبر وضعها قائمة شروط ومعايير إشهار شركات تصدير المنتجات الزراعية الراغبة بالانضمام إلى برنامج الاعتمادية، وهو برنامج طرحته وزارة الزراعة، ونال موافقة رئاسة مجلس الوزراء، شمل بشكل أساسي تحديد مواصفات المنتَج وكميته وجودته. لكن هذا البرنامج لم يأخذ بعين الاعتبار نظام الأتاوات على الترفيق، فكان أن بقي حبراً على ورق.

تكاد تكون معظم القرارات المتعلقة بإنتاج وتسويق الحمضيات خارج الواقع، ولا تمت لاعتبارات مصلحة المزارعين بصلة. وإن وجِدت فهي تكرار كاريكاتوري لقوانين وخطط سابقة. هكذا مع بداية كل موسم، ومنذ عقود تحكي اللاذقية الحكاية نفسها. نهايتها معروفة وترسم الحبكة نفسها، بين أولاد صاحب أكبر معمل لإنتاج المشروبات الغازية ومسؤولين من مديرية الزراعة ومبنى المحافظة. وتنتهي الحكاية بعد أخذ وردّ فوق الطاولة وتحتها، تنتهي بأن ينام فيها أولاد المسؤولين على الموزة الذهبية ويتركون قشرتها لعموم المواطنين. أما البرتقال فمنكوب في موئله وعلى طريق البادية، وعند الحدود لا يعترف به أي سوق.

اللعبة مكشوفة منذ أمد طويل؛ في التسويق تبريرات التموين رخيصة، هم يحمون تجارة الموز بقوة القانون، وفي النقل تبريرات الحماية بقوة السلاح والأمر الواقع.

(لقد دخلت الغرفة متسللاً كأنني المنبوذ، وحينما لامست نظراتي وجه أبيك يرتجف بغضب ذبيح، رأيت في الوقت ذاته المسدس الأسود على الطاولة الواطئة، وإلى جواره برتقالة، وكانت البرتقالة جافة يابسة)_ (غسان كنفاني، أرض البرتقال الحزين).

 

العدد 1102 - 03/4/2024