إلى الأمام نحو المجهول

الدكتور سنان علي ديب:

قبل الحرب القذرة المعقدة المركبة التي دارت على سورية وشعبها، كتبت مقالة: (إلى الأمام نحو الهاوية) ومناسبتها كانت معارضتنا القوية لنهج الحكومة وقتئذٍ برئاسة العطري والنائب الاقتصادي عبد الله الدردري، وهو نهج اقتصادي واجتماعي تميز بالسوء، وهو ما سمي بعده بالدردرة وكان بوابة الانقلاب الاقتصادي الاجتماعي وتسويء المؤشرات الكلية والخدمات المتمايزة عن أغلب البلدان المحيطة، وما نجم عنها من شعب قوي محصن مؤمن ببلده وصعب الاختراق. وقد تلخصت الدردرة بسحب يد الحكومة من التحكم بالاقتصاد ومنعكساته وتحرير التجارة الخارجية والتحول للاقتصاد الريعي عبر تخسير القطاع العام وسحب ما سمي الدعم، وكانت هذه المعركة أصعب ما يكون ولم يستطع تمريرها وبطرق مختلفة: بدل مالي، قسائم، وكان تمرير رفع سعر الوقود قد أدى لهجرات من المناطق الزراعية وهجرة الأراضي والسكن بعشوائيات محيط المدن، وأغلبها استثمر فيما بعد. وقبلها في لقاء صحفي معي عام ٢٠٠٨ لمحت إلى أن السير بهذا النهج سيؤدي إلى الصدامات والدماء، ولكن المقاومة والممانعة عبر المنظمات وعبر الأحزاب وعبر الشخصيات الوطنية عرقلته وأبطأته رغم ما مورس من تضليل بالأرقام وبالتصريحات، ومحاولة حصر الإعلام بمن يناصر الدردرة التي هي أسوأ من اللبرلة ووحشيتها وتمايز بضعة شخوص على حساب الوطن، وصدرت مجموعة من المحتكرين على حساب تقويض الإنتاج الحقيقي. المهم بعد فترة وقبل بضع سنوات التقيت بأحد موظفي الفريق الاقتصادي الذين ما زالوا يتحصنون بمواقع ومراكز فاعلة، وتناقشنا فقال: كلامك صح، وحتى الأستاذ الدردري لم يتوقع النتائج ولم يتوقع تمرير قرارات ورؤى بعيدة عن الليبرالية وعن طلبات الثالوث القاتل الاقتصادي: البنك الدولي، وصندوق النقد، ومنظمة التجارة، وجاءت الحرب الإرهابية بكامل أنواعها العسكرية واستيراد المفخخين والمتشددين وبالتضليل والإرهاب الإعلامي وأهمها بالتوحش الإرهابي الاقتصادي: حرق محاصيل، قطع أشجار، تلويث تربة وهواء، وسرقة محطات ومعامل، وتدمير الطاقة، وتهريب منتجات ومضاربة قذرة على الليرة، وترافقت مع سياسات ماهت ما عجز عنه قبل الحرب، ولو أن المتغيرات والانعكاسات جعلت بعضها كالبطاقة الإلكترونية والتقنين الجزئي مقبولة لقلة الموارد، ولكن الاستفاضة بنهج يحابي الريعية والاحتكار وينسى المواطن الذي هو غاية وأساس أي تنمية ووجوده محصناً هو من مقومات الدولة الوطنية، قلب الأمور رأساً على عقب وسط لا مسؤولية ولا مبالاة عن تأثير القرارات على نفسية أغلب المواطنين وصحتهم وصبرهم ومعاناتهم، وعبر مسرحيات قطع وطوابير ورفع متتابع للأسعار، ومن ثم توفير المواد مع دهشة العباد، وكل ذلك عبر تجريب وأسلوب صدمة عجيب ورغم أن هذه الوصفات فرضت على دول مناعتها وتنوعها ومواردها أقل لم تقم بإبداعات الفريق الاقتصادي لدينا، ومنها الجارة لبنان التي تعاني من سياسات المركزي وتفرده وهبوط العملة، ولكن المنظمات والاحزاب والإعلام وقف باتجاه التمرير، ونجد فرض معونات وبدل نقل للجميع وبطاقة تمويلية وليست تسويقية وفرض الدور المنوط بالمؤسسات، وبالتالي الوصفات التي فرضها البنك الدولي عليهم ليست بقوة وتشدد ما وجدناه، وحتى بتقنين الكهرباء لم يصلوا لما وصلنا إليه رغم أننا كنا نصدرها لهم.

ونتفاجأ بعرض الكهرباء لمن يدفع وبأسعار محابية للبعض.. ووقود حر لمن يريد، واليوم يجهز لطرح الخبز بسعر الكلفة أو غير مدعوم كما يصرحون، وكل ذلك وتصريحات تخديرية هناك محاولة لرفع الأجور وتحسين معيشة المواطن وووو. وكل يوم قرار ييأس المواطن ويزيد فقره ولا تمارس كدفعة واحدة وسط فوضى أسعار وتصريحات وألم مكبوت تحت لافتة الصبر والنصر.

ويبقى السؤال: لماذا التجريب بالتنقيط وعدم أخذ الحالة النفسية واللعب عليها وانعكاسها وتسببها بهجرة الطاقات والكفاءات؟ والسؤال الثاني لماذا التخدير بتصريحات رفع مستوى المعيشة والبحث عن كتلة مالية وسط تحرير أغلب السلع خارج البطاقة ووسط استمرار تبعية مؤسسات التدخل للسوق ووسط رفع تكاليف الإنتاج لنكون أمام تضخم مخيف؟ فأين ما وفرته الحكومة من سحب الدعم وتقويض النهب والسرقة للمواد المدعومة.

في أي معادلة لاستمرار توازنها يجب العمل بالطرفين وليس بطرف واحد فتؤدي إلى خلل متراكم وضبابيات قادمة.

تحسين المعيشة ورفع الحد الأدنى للأجور ليست منحة، وإنما هي في صلب الدستور أس القوانين وأهم عباراته العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة.

حتى نقشع الضباب ونعرف طريقنا يجب العمل ضمن خطط وضمن قراءة أثر ما نعمل وضمن منطلقات واقعية وليست برامج ورؤى مفروضة نتائجها تعرقل الحلول والتعافي والعودة القوية.

 

العدد 1104 - 24/4/2024