الديمقراطية مفهوم إشكالي

غالب خليفة:

الديمقراطية مفهوم تاريخي اتخذ عبر تطور المجتمعات وتعدد الثقافات صوراً وتطبيقات متباينة، وهذا المفهوم في جوهره مثل أعلى يتمثل في المساواة، وإن النظم والمؤسسات التي تُلقَّب بالديمقراطية هي تلك التي تعظّم المساواة بين البشر في فرص الحياة في كل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتسمح للإنسان بتطوير إمكاناته وإطلاق قواه الكامنة لتحقيق الذات الديمقراطية. بهذا المعنى هي دعوة إلى المساواة وهي ليست مفهوماً سياسياً، ولم تكن كذلك إلا في التعريف الليبرالي لها، يترتب على ذلك أنها كانت سلاح الفقراء والضعفاء والمتطلعين إلى عالم أفضل لكي ينتزعوا حقوقهم الاجتماعية والسياسية، وأنها كانت موضع شك وريبة من الصفوات المتميزة التي رأت أن إعطاء الحقوق الديمقراطية للجماهير يهدّد الامتيازات التي تتمتع بها.

ولكن مع نشوء الملكية الخاصة، بدأ انقسام المجتمع البشري إلى طبقات وظهرت التشكيلات الاجتماعية الطبقية بدءاً بالتشكيلة العبودية، وفي كل المجتمعات الطبقية أخذت الطبقات المسيطرة في سن القوانين والتشريعات، أي أنه قد ظهرت ديمقراطية أخرى هي ديمقراطية الأقلية ضد الأغلبية، وتحولت الدولة إلى جهاز قمع بيد الطبقة الحاكمة.

إن قيام الديمقراطية البرجوازية على مفاهيم المساواة في الحقوق والحريات الفردية لم يؤدِّ إلى المساواة الاجتماعية، فقد أخذت الحركة العمالية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر تفرض نفسها، وأدى نضالها إلى توسيع الديمقراطية السياسية وإخراجها من النطاق البرجوازي النخبوي، من خلال تعميم حق الانتخاب وكسب بعض الحقوق الاجتماعية.. أي إن الديمقراطية الغربية اقتصرت على الميدان السياسي، بينما ظلت مجالات العلاقات الاجتماعية التي تخص إدارة الاقتصاد محكومة بمبادئ غير ديمقراطية، وهي سيادة الملكية الخاصة وقوانين المنافسة. لذلك اعتبر نقد الاشتراكية لمفهوم الديمقراطية البرجوازية القائم على تحليل نمط الإنتاج الرأسمالي نقداً صحيحاً. فالنمط الرأسمالي يشترط وجود طبقة يفرض عليها العمل المأجور.. الأمر الذي يتطلب نظاماً اجتماعياً يضمن طاعة الطبقة الأجيرة وإذعانها لشروط العمل في هذه الظروف. إن عدم التماثل في أوضاع الطبقتين الرأسمالية والأجيرة بالنسبة للعمل يضع حدوداً واضحة للديمقراطية السياسية في هذا المجتمع، هذا إن وجدت، فلا يمكن التوفيق بين عقلية العامل ورب العمل، لذلك سيبقى الصراع مستمراً.

لا شك أن مفهوم الديمقراطية مفهوم إشكالي، فإذا قلنا إن الديمقراطية هي سلطة الأغلبية، فماذا تعني هذه الأغلبية؟ الأغلبية ليست كتلة واحدة صماء، الأغلبية مكونة من فئات وتيارات مختلفة ومتنوعة من حيث مصالحها وتصوراتها وإيديولوجياتها، رغم أنها تشترك بشكل عام في بعض التوجهات المصلحية الوطنية والقومية العامة.

لذلك إن القول بالأغلبية لا يعني احتكار طرف واحد لتمثيل الأغلبية هذه، بل ينبغي أن تترك هذه الأغلبية أن تعبر عن ذاتها في أشكالها المتنوعة وتنظيماتها المختلفة التي يمكن أن تشكل بمجموعها مصالح الأغلبية. ويمكن أن تكون سلطة الأغلبية في هذه الحالة سلطة تحالف ومسيرة قوى مختلفة أو سلطة تداول ديمقراطي بين هذه القوى، يصلح هذا في بلاد توفرت فيها كل وسائل التوعية والتثقيف والتطوير الاجتماعي والاقتصادي، وهذا يتطلب أن تكون آليات التصويت العام والحر هي الآلية الأساسية في اختيار السلطة المعبرة عن النظام المتطلع للديمقراطية، أياً كانت طبيعة هذا النظام، وأن يمهد هذا التصويت العام لقيام سلطة معبرة؟ بحقّ عن الأغلبية المجتمعية تمثيلاً واقعياً وموضوعياً وليس تمثيلاً رمزياً. أما في البلاد النامية المتخلفة اجتماعياً واقتصادياً، حيث لاتزال الأمية والقبلية والعشائرية وسلطة المال وسلطة الفكر السلفي التكفيري وسلطة العادات والأعراف، هنا تكمن الإشكالية الكبرى في العمل، فما هو المخرج؟ هنا لابد من الانتباه لعدة أمور:

* لا وجود لديمقراطية مطلقة صافية خاصة.

* إن كل ديمقراطية هي ذات دلالة اجتماعية أي معبرة عن مصالح معينة.

* إن أفضل أشكال الديمقراطية هي تلك المعبرة تعبيراً مباشراً وليس رمزياً عن الأغلبية المنتجة والمبدعة في المجتمع.

في مثل هذه البلدان لا حرية ولا ديمقراطية من غير تطوير للبنى الاجتماعية والاقتصادية وتحديثها تطويراً وتحديثاً مستمداً من الخبرة الحية للجماهير وبمشاركتها الفعالة ومن داخل آلياتها الخاصة، لا حرية ولا ديمقراطية إن لم تكن ثمرة تطوير ذاتي داخلي نابع من الملابسات الخاصة لكل مجتمع، وأخيراً لا حرية ولا ديمقراطية بفرض أشكال ومؤسسات وهياكل على الجماهير وتراثها الشعبي والتاريخي وبغير مشاركتها الفعالة.

لهذا فإن الدعوة التي ترتفع اليوم، بأن الديمقراطية البرجوازية هي الحل الوحيد لقضية الديمقراطية في كل مكان، هي دعوة خادعة وباطلة، وهي مدخل لتسييد الرأسمالية عالمياً وتنميط العالم في إطار مصالحها الخاصة، وهي تقويض للتنمية الوطنية المستقلة، ويبقى الجوهر العام لمفهوم الديمقراطية هو تأكيد المشاركة الجماهيرية الفاعلة في إصدار القرار السياسي والاجتماعي، وإن اختلفت الأشكال باختلاف البلاد.

بقي أن نذكر أن فشل النموذج الستاليني في الديمقراطية أو ديكتاتورية البروليتاريا لا يعني، كما يزعم البعض، الانتصار النهائي للنموذج الديمقراطي البرجوازي، وبالتالي الانتصار الحاسم للنموذج الرأسمالي في السلطة والسياسة والاقتصاد، وأن التاريخ كما يزعم الياباني المتأمرك فوكوياما قد وصل إلى نهايته. الرأسمالية تعاني أيضاً من أزمتها وماتزال البشرية تتطلع إلى التخلص مما تعانيه من اغتراب واستغلال واستبداد واستعمار وعنصرية، وماتزال الاشتراكية هي الطريق إلى تحقيق ذلك، ولكن الأمر يحتاج إلى بديل واستثمار النموذج الذي ثبت فشله وأفضى إلى هذه الأزمة التي تعرضت لها التجارب الاشتراكية.

العدد 1104 - 24/4/2024