التحرّش الأسري في مواجهة جرائم الشرف

إيمان أحمد ونوس:

عرفت المجتمعات البشرية قاطبة الكثير من الجرائم الأخلاقية ذات الطابع الجنسي، وكذلك ما يُعرف اليوم بالتحرّش الجنسي. لكن أسوأ أنواع هذا التحرّش ما يجري بين أفراد الأسرة الواحدة التي من المُفترض أن تكون واحة الأمان الأولى في حياة كل إنسان منذ طفولته وحتى الكهولة.

يُعتبر التحرّش الأسري أسوأ وأفظع أنواع التحرّش لأنه يأتي ممّن هو مخوّل بحماية الطفل/ـة سواء كان أباً أو أخاً أو عمّاً أو خالاً وما يدور في فلكهم من محارم يُفترض بهم أن يكونوا مصدر الحماية والأمان لمن لم يخرج بعد من شرنقة الطفولة فكراً وجسداً وعواطف، ولمن لا يستطيع الدفاع عن نفسه جسدياً أمام جبروت الكبار ووحشيتهم التي تقودهم إلى أفعال منافية للأخلاق والقيم الإنسانية.

ورغم فظاعة هذا الجرم، إلاّ أنه، في كثير من الحالات، يبقى طيّ الكتمان في المحيط الأسري والاجتماعي بسبب الخوف من الفضيحة التي قد تطول شخصية اجتماعية مرموقة ظاهرياً، أو الخوف من العار الاجتماعي الذي سيلحق بالأسرة ككل، ما يُعرّضها للنبذ الاجتماعي. إضافة إلى أن القيّمين على حماية الضحية هم من يطلبون منها الصمت، وغالباً ما يعتبرونها الدافع وراء تلك الجريمة لما أبدته من إغواء حسب رأيهم. لكن، لنتخيّل مفهوم الإغواء وآليّته لدى طفلة بعمر الورود!! ولا يقف الصمت عند حدود الأسرة فقط، بل يتعدّاه إلى الإعلام الذي من المفترض به أن يكون منبر التوعية والإرشاد والتنبيه لأجل تفادي هذا النوع من الجرائم الأسرية الخطيرة، والمفارقة أننا حين أردنا منذ زمن بعيد تناول هذه الحالة، اتُّهمنا بأننا نسعى لشرعنتها عبر تناولها، بينما الصمت وعدم إثارة الموضوع كفيل بالتخفيف منها أو تفاديها، فأي منطق يقبل هذا النوع من التبرير غير العقلاني في تناول واحدة من أهم الجرائم التي تجري في المجال الأسري، بينما بالمقابل يجري تناول ما يُسمّى بجرائم الشرف على أعلى المستويات الإعلامية والقانونية والاجتماعية. أمّا على المستوى الأسري، فإن الضحية في هذه الجرائم تحمل وحدها لواء الشرف وتُقتل دفاعاً عنه لمجرّد الاشتباه أو الشك في سلوكها، ويبقى مرتكب جريمة التحرّش الأسري أو ما يُعرف قانوناً بسفاح الأقارب حرّاً طليقاً، بل يتمُّ التستُّر عليه خشية المساس بسمعته وسمعة العائلة، وتبقى الضحية في الحالتين هي المجرمة التي أدّت إلى ارتكاب مثل تلك الجرائم الشنيعة التي تناولها وشملها قانون العقوبات السوري بعقوبات خفيفة لا تتوازى مع فظاعة الجرم المرتكب، لاسيما لجرائم سفاح الأقارب، مع الإشارة إلى أنه جرى إلغاء المواد المتعلّقة بجرائم الشرف وصارت تُعتبر جريمة قتل تستحق العقوبة التي نصّ عليها القانون، وهذا لا ريب خطوة إيجابية على طريق إلغاء كل المواد التمييزية ضدّ المرأة من القوانين السورية.

لا شكّ أن هذا النوع من التحرّش كما غيره يخلق لدى الضحية إحساساً رهيباً بالخوف والريبة من الآخرين عموماً ما يجعلها تعيش حالة من الانطواء والعزلة والخوف من الفضيحة رغم أنها ضحية، وهذا ما يُعزّز دونيتها وتبعيتها وحاجتها الدائمة للحماية.

غير أن للتحرّش الأسري آثاراً بعيدة المدى لدى المرأة تتمظهر بأشكال مختلفة من الشعور الدائم بالإثم والعار لدرجة كره الذات أو الحقد عليها، إضافة إلى رفض الجنس الآخر وخشية اقترابه منها، وبالتالي فقدان الثقة به في مختلف حالات صلتها به، وهذا ما سينسحب لاحقاً على العلاقة الزوجية التي تعيشها بشيء من القرف والاشمئزاز والرفض الضمني، أو البرود الجنسي الذي يُعتبر أهم أُسس الخلافات الزوجية وقد تؤدي للطلاق لاحقاً.

هذا على مستوى العلاقة الزوجية، أمّا على مستوى علاقتها بأبنائها فإنها تبدو حذرة وتشوبها الريبة من علاقة الإخوة فيما بينهم، فتحاول بشكل دائم الفصل بين الجنسين بشكل يُثير الانتباه ويشوّه نظرة كل منهما إلى الآخر، وبالتالي نكون أمام أبناء خائفين من الجنس الآخر وفاقدين للثقة به إلى درجة تُعرقل مسيرة حياتهم القادمة وعلاقاتهم الاجتماعية اللاحقة.

لكن، إذا بحثنا عن الدوافع الكامنة وراء هذا النوع من التحرّش نجد أنها تتباين ما بين الفقر وضيق أمكنة السكن لدى الفئات الشعبية البسيطة بتفكيرها وتعاطيها مع مختلف قضايا الحياة والتربية، إضافة إلى ما تحمله من قيم تربوية- دينية تُعزز الكبت الجنسي من جهة وتنظر إلى الأنثى على أنها مصدر الإغواء والدافع إليه مهما كان سلوكها منضبطاً، وبالتالي تكون هي المجرمة رغم أنها ضحية كل الشذوذات الأخلاقية والاجتماعية المحيطة بها، وهذا يستوجب عقابها بالقتل النفسي أو الاجتماعي أو الجسدي. كما علينا ألاّ ننسى أن الحرب بمختلف تبعاتها عزّزت ارتكاب مثل تلك الجرائم بحكم ما جرى للأسرة من تشرّد وتشتّت أدى ببعض أفرادها إلى الهاوية التي تركت المجال رحباً أمام العديد من الجرائم والانتهاكات الأخلاقية الخطيرة التي تعمل على تدمير الفرد والمجتمع والدولة معاً، فهل تعمل الحكومة ومنظمات المجتمع المدني والنسوي على التصدي لهذه الجرائم ونشر التوعية التربوية والاجتماعية، إضافة إلى مساعدة الضحايا بإعادة تأهيلهم نفسياً وقيمياً كي يعودوا للحياة بأقلّ الخسائر الممكنة للجميع!؟

العدد 1104 - 24/4/2024