بائع أحلام
حسين خليفة:
قصص كثيرة تحفل بها كتب الأدب ووسائل التواصل الاجتماعي عن مثقفين وحملة شهادات عليا امتهنوا مهناً لا تخطر على بال متابعيهم وقرائهم، قصص لا يتسع المقام لسردها.
الإعلان عن طلب مهندس/ة عمارة للعمل كبائع قماش في سوق الحريقة الذي ملأ وسائل التواصل مؤخّراً، ومثله كثير، حتى وإن كان على سبيل النكتة، يعكس واقعاً موجوداً عن سوريين يمتهنون شتّى المهن في المنافي وداخل البلاد، فقط ليتمكنوا من البقاء على قيد الحياة.
آخر القصص التي شهدتُها بنفسي هي قصة صديق أديب وصحفي غادر البلاد منذ زمن طويل قبل الحرب، وامتهن الكتابة في مجاهل المنفى، لكن تغيّر الحال مع اندلاع الكارثة السورية وانقسام السوريين إلى فسطاطين: نحن وهم، قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار، هم خونة وعملاء مأجورون ونحن وطنيون صادقون، …الخ من مصطلحات غزت حياتنا على شكل ثنائيات استخدمناها جميعاً ونستخدمها: (مؤيد ـ معارض، شبيح ـ مندس، تعفيش ـ تشويل، براميل ـ قذائف، ثورة ـ أزمة….الخ)، حتى أصبحتَ تعرف هوى المتحدّث وموقفه من أول لفظة يُطلقها حول الأحداث والحياة التي ندّعي أننا نحياها الآن على هذه الأرض، مهما حاول المداورة أو التلميح خوفاً أو طمعاً.
نعود إلى قصة الصديق الأديب والصحفي الذي لم يجد مكاناً له في هذه الحرب العبثية أيضاً، فالرجل عارض وسُجن قبل أن يسمع جماعة الثورة بأنّ هناك معارضة وسجون، وكان بعضهم يستلم رأس الدبكة في المهرجانات والاحتفالات المؤيّدة طبعاً، وبعضهم الآخر يختبئ في صمته وقهره.
ثم، حين وقعت الواقعة، لم يجد ما كان يسعى إليه من تغيير نحو الأفضل لدى الفريق الآخر، وهو في الأساس معارض للفريق الأول.
ولأن معظم المنابر الإعلامية ودور النشر السورية والعربية تقاسمها الطرفان، ولم يقبلا أي مختلف عنهما فيها، فقد وجد صاحبنا نفسه بلا عمل ولا أمل أيضا كما غالبية السوريين.
منذ أيام كنّا نتواصل للاطمئنان عن الأحوال والأخبار، فاجأني بالمهنة التي بدأ يمارسها هناك في أوربا، مهنة لا تناسب مؤهلاته وتكوينه الجسدي والنفسي، لكنه مضطر للعمل: سائق شاحنة!!
كان المشهد مضحكاً مبكياً، الرجل النحيل المرهف المثقف يجلس خلف مقود الشاحنة حتى يكاد لا يبين، كرسي السائق يبدو فارغاً فيما الشاحنة تتحرك، هكذا تخيلته وضحكنا وبكينا على هذه البلاد وأهلها.
قال: لقد نلتُ شهادة سواقة بعد التدريب المضني، وحصلتُ على هذا العمل الذي لا أحتاج معه أن أحني رأسي لهؤلاء أو أولئك، وحين أجد متسعاً من الوقت للكتابة أكتب ما يقوله ضميري، وما تراه بصيرتي، وليس ما يرضي هذا أو ذاك من زعران الثقافة على الضفتين.
هذه صورة من ملايين الصور التي تعكس حال السوريين والسوريات، دكتور جامعة يعمل في الإعلانات، مهندس يعمل بائع بالة، مدرس يعمل بائعاً متجولاً، أديب يعمل سائق شاحنة. …الخ.
ما يُعزي القلب والروح أنه لا بدّ زمنٌ عابر، سورية الغنية بثرواتها البشرية والطبيعية والاقتصادية ستنهض يوماً نتمنى أن يكون قريباً، وستصبح مضرب المثل في البلاد التي تنهض من كبوتها وتعيد بناء الإنسان والعمران والحياة، سورية موحدة ديمقراطية علمانية لا تسجن مواطناً لرأيه، ولا تدفع بالموهوبين والمبدعين والمثقفين إلى مجاهل المنفى والتجاهل.
سيأتي زمن يختار الإنسان السوري مجال عمله الذي يبدع فيه ويحبه في بلده، ويعيش عيشة كريمة مُتحرّراً من الحاجة والفقر والخوف.
إلى أن يأتي ذلك اليوم الموعود سنلوك حسراتنا ونحن نرى أبناء البلاد المبدعين والمتفوقين يعملون في شتّى المهن ـ مع احترامنا الشديد لكل المهن ووعينا لضرورتها للحياة على قدم المساواة ـ حتى يبقوا على قيد الحياة، فيما يحتل أماكنهم المُدّعون وتجّار الكلام وماسحي الجوخ.
ننتظر معاً فجراً لم يعد بعيداً، فأحْلَكُ ساعات الليل آخرها.