التغريبة السورية.. خسارة لن تعوض!

 سليمان أمين:

بات البحث عن فرصة للهجرة حلماً لدى كثير من السوريين الذي اغتالهم الفقر والجوع لسنوات مرت، كما اغتالت الحرب أحلام الشباب الذي ضاعت أعمارهم وحرق مستقبلهم وأيامهم، خصوصاً جيل الثمانينات الذي لم يعد لديه مستقبل يذكر، كما انهارت مصانع وصناعات سورية عريقة سواء اليدوية أو غيرها، وما بقي منها يلفظ أنفاسه الأخيرة نتيجة قرارات الحكومة على مدى سنوات عشر، كانت العامل الأساسي في سياسة التطفيش التي اعتمدتها بإرهاق الصناعيين وغيرهم بالأتاوات والرسوم الكبيرة، فالحرب بعامها العاشر لم تُعلّم أصحاب القرارات حتى اليوم أن يتمسكوا برؤوس الأموال ويجذبوها بالسياسات الاقتصادية الناجحة والدبلوماسية وبرسوم منخفضة وتسهيل المعاملات كما تفعل الدول المتقدمة، إذ تعتمد سياسة جذب المستثمرين بتقديم كل التسهيلات، لا التعقيدات كما لدينا، لرفد اقتصادها وتغذيته برؤوس أموال جديدة تساهم في حماية اقتصادها وازدهاره، لا تحطيمه وجعله اقتصاد جباية كما تفعل حكوماتنا لسنوات، فلم يعد لدينا من الصناعيين سوى قلة القلة، فأغلبهم هاجروا برؤوس أموالهم إلى بلدان أخرى قدمت لهم كل التسهيلات وأولها مصر وتركيا، حيث يساهم الصناعيون السوريون في مصر بإيرادات اقتصادية جديدة، كما ساهموا بتوفير فرص عمل للشباب المصري ضمن منشآتهم (المطاعم وورش الخياطة ومصانع الألبسة والقماش وغيره من الصناعات) التي كانت تساهم في إنعاش السوق الصناعية السورية لسنوات قبل الحرب، وقد باتت سورية اليوم سوقاً لتصريف المنتجات الخارجية للدول الأخرى، بسبب صعوبات تعرقل الصناعة والإنتاج فيها، وذلك يعود لأسباب أهمها عدم توفر مادة المازوت بالطرق النظامية، وارتفاع أسعارها في السوق السوداء، وهذا انعكس بشكل حتمي على سعر المنتج النهائي، إضافة إلى فرض ضرائب غير محقّة من قبل وزارة المالية، يدفعها المواطن من جيبه عند شراء المنتج، إضافة إلى أن المرسوم الرئاسي رقم 237 الخاص بإحداث منطقة تنظيم مدخل دمشق الشمالي، سيؤدي إلى هدم 750 معملاً، وهذه الأسباب مجتمعة أدت وستؤدي إلى امتناع الصناعيين السوريين في الخارج عن العودة إلى سورية. وقد اتخذت الحكومة هذا الأسبوع قرار تخصيص مازوت للصناعيين بسعر 1700 ليرة سورية، ولكن لا نعرف حالياً مدى انعكاسه على الواقع الصناعي والسعري، هل سيكون أكثر سلباً أم سيكون له تأثير إيجابي خفيف بتحسين واقع السوق والصناعة السورية ولو بشكل بسيط، لا نستطيع الحكم حالياً ولا نعلم مدى توفر مادة المازوت والغاز لدى الحكومة، ومدى شفافية التصريحات الحالية هل ستكون كسابقاتها من التصريحات.

أكثر ما يحزن ويثير الاستغراب هو تصريحات بعض المسؤولين الذين يعيشون في بروجهم العاجية دون أن يدركوا خطورة ما حدث ويحدث، فإن كانوا لا يعلمون فهذه مصيبة، وإن كانوا يعلمون بالواقع المزري ويتجاهلونه فهنا الكارثة الأكبر. وهنا نتوقف عند تصريح رئيس غرفة صناعة دمشق وريفها في منشور له عبر صفحته الشخصية بالفيسبوك (إن إثارة موضوع هجرة الصناعيين السوريين إلى مصر مبالغ فيه، وإن الأرقام التي تتم إثارتها عبر مواقع التواصل الاجتماعي أخذت أبعاداً غير حقيقية وإن هناك أرقاماً خيالية من المهاجرين المزعومين)، فردّ رئيس غرفة صناعة حلب بتصريح أقرب إلى واقع الصناعة السورية جاء فيه: (هذا لا ينفي أننا أمام مشكلة حقيقية وكارثية قادمة إذا لم نتدارك الأمر بسرعة.. وعلينا بدلاً من التشكيك بالأرقام أن نعمل جاهدين مع الشريك الحكومي كفريق واحد في تذليل الصعاب وإزالة العراقيل، وفي تطبيق مع ما تم إقراره من مقررات وتوصيات في المؤتمر الصناعي الأخير في حلب عام ٢٠١٨، فسورية رغم كل شيء تبقى أفضل مكان للاستثمار الصناعي، وهمّنا الأكبر هو إعادة من غادر مرغماً إلى الخارج).

كثير من التصريحات البعيدة عن الواقع والمتناقضة، والتي لا تعد ولا تحصى لسنوات مضت، لم يكن لها أي أثر إيجابي على أرض الواقع، وجعلت المواطنين أمام الخيار الأصعب وهو ترك كل شيء وبيع ممتلكاتهم، والبحث عن طريق يخرجهم من الواقع المزري ويصل بهم إلى دول أوربا متحملين كل المخاطر وعمليات النصب وغيرها من الأمور.

ختاماً

لنوقف الهجرة القسرية للسوريين، ولنوقف نزيف العقول والبنية الفتية! لقد بات السوريون يعيشون تغريبتهم في الخارج والداخل، بسبب شبكات فساد قوية تحولت لمافيا حقيقية وتغلغلت ضمن مؤسساتنا بكل قوة دون رادع، فمن المهم إيجاد الحلول بشكلها العملي والواقعي دون مؤتمرات وخطابات وغير ذلك من حبر الأوراق الذي لا ينفع.

ما نحتاجه هو قرارات صارمة وعملية تنفّذ فتفتح باب الاستثمار والجذب، وتحسين واقع الشباب وتشجيعهم على البقاء وعودة من هاجر وإعطائهم حقوقهم، إضافة إلى ضرورة توفير حوافز للصناعيين، كتأمين جميع مستلزمات الإنتاج لهم من كهرباء ووقود ومواد أولية بكل طريقة ممكنة، وكذلك توفير قطع أجنبي، والالتفاف على الحصار من خلال إيجاد طريقة تسمح للبنوك السورية بفتح اعتمادات في بنوك الخارج من أجل عملية التصدير، والعمل على الوصول إلى رفع الحظر عن المصرف المركزي السوري، إضافة إلى ضرورة إصدار قرار من شأنه تسهيل حركة السيولة للصناعيين في البلاد، وخاصة أن المصارف لا تسمح حالياً بسحب مبلغ يزيد عن مليوني ليرة سورية، وغيره من القرارات التي تسهم في خلق مناخ حقيقي لعودة بلدنا للحياة. يكفينا موتاً، يكفينا تهجيراً يكفينا غربة، ما نحتاجه هو تفعيل سلطة العدل والقانون لا سطوة المافيات والفساد. سورية تكبر بشعبها وشبابها وليس بالأجنبي الدخيل. لنعمل حتى نعيد لسورية ألقها بالعمل لا بالتأمل وبيع الوطنيات والتخوين وإسكات صوت الحق، فخسارتنا اليوم هي خسارة بلد لن تعوضه السنون إن لم نتداركه الآن.

العدد 1104 - 24/4/2024