سنوات الضياع والخداع!

رمضان إبراهيم:

أعلم وتعلمون أيضاً أن بعض الحقائق لها طعم الحنظل، وما زلنا منذ سنوات نتجرّع كؤوساً من هذا الحنظل يومياً دون أن نتمكن من أن ننطق ببنت شفة أو أن نومئ برؤوسنا في إشارة إلى أن ما تجرّعناه من مرارة يكفي.

قد يقول قائل إن هذا الكلام ليس وقته الآن، وأنا على المستوى الشخصي والوجداني أدرك حساسيته، ولكن سأجيب هذا الشخص المتسائل بأننا قبل الأزمة الحقيرة لم يكن هناك من فرصة ووقت للاعتراف بالأخطاء خوفاً من الاتهام بالعمالة أو الخيانة، وبالتالي الاستعداد لقضاء ما بقي من عمر بعيداً عن الأهل والأسرة والأحبة.

وقد يقول آخر أيضاً إننا أثناء الأزمة اللعينة هناك ما هو أهم من الحديث عن تلك الأخطاء الكارثية المتراكمة، وسأجيب هذا الآخر أيضاً بأنه لا يوجد حل للأزمة إلاّ بالتخلص ممّن تسبب بها، وأسمح لنفسي هنا أن أتّهم كل من جاء إلى كرسي المسؤولية وفي نفسه كم سيجمع من مال وكم سيملك من عقارات وسيارات ووجاهات وأملاك بأنه أحد أهم أسباب الأزمة.. وفي هذا المجال أرجو منكم أحبتي أن تنظروا في قريتكم وشارعكم وحيّكم ومعارفكم إلى من أثروا قبل الأزمة وأثناءها من خلال تربعهم على كراسي المسؤولية! والشيء المضحك المبكي أن بعض هؤلاء ما زالوا يتربعون على كراسيهم ليفتكوا بما تبقى من جسد هذا الوطن المسكين.

وقد يقول لي مواطن، بعد أن تحزم الأزمة حقائبها تاركة لنا روائح الدم والقتل والدمار والتشرّد والأجساد المتفسّخة: يا أخي ليش معلاقك كبير؟! هناك ما هو أهم من الحديث عن الأخطاء.. دعنا من هذا.. ولنبدأ مرحلة إعادة الإعمار! وهنا سأجيب هذا المواطن بأن معلاقي قصير جداً، ولكن علينا أن نستعد لأزمة ثانية وثالثة وعاشرة ما دمنا لم نبحث عن السبب الجوهري لما وقعنا به.

بعد كل هذا وكي لا أبتعد عن العنوان، سأدخل إلى جوهر الموضوع وأسأل بكل ما أملك من وطنية وضمير وأخلاق وحس بالمسؤولية:

ألم نكن على مدى سنوات عديدة نكذب على الوطن وعلى أنفسنا، عندما قلنا بأننا نملك من الوحدة الوطنية ما يجعل كل رياح التفرقة والطائفية والبغضاء تتكسر على أسوار هذه الوحدة؟! ألم يدهشنا أن كل تلك الشعارات لم تكن سوى شعارات واهية لم تصمد أكثر من هبّة نسمة واحدة من نسمات الربيع الوقح؟! أليس من الضروري أن نبحث طويلاً في الأسباب التي أدت إلى كل هذا الحقد اللعين لدرجة وصلت إلى قطع الرؤوس وأكل الأكباد، مع تمنياتي بألّا يقول لي قائل إنها حالات فردية؟!.

ألم نكن نتغنى بالخطط الخمسية التي على أساسها بنينا اقتصاداً قوياً يقف صخرة صلبة في وجه التطاول على قوتنا وليرتنا، وعندما هبت رياح الأزمة بدأ الاقتصاد بالتدهور، وبدأنا نلحظ هشاشة الفرق الاقتصادية وخطط اقتصادنا وكل الشعارات الاقتصادية، وبدأنا نتأرجح بين التوجه غرباً الذي أثرى من صفقاتها لصوص كبار مازالوا يتحكمون بتجارتنا، والتوجه شرقاً حيث يطمح البعض من التجار بالتهام النصف المتبقي من الكعكة دون أن نستقر على جهة معينة؟!

ألم نكن نتغنى بما لدينا من مقومات الصمود، وبما نملك من أوراق قادرة على قلب المنطقة رأساً على عقب ولمصلحتنا خلال وقت قصير، ولكننا فوجئنا بأننا ورقة في مهب القرارات العربية والدولية، وباتت دويلات وإمارات بحجم رأس الدبوس على الخارطة تتحكّم بمستقبلنا؟!

بعيداً عن كل هذا سأدخل إلى الحكومات المتعاقبة التي شهدنا ولادتها، بعد أن هلّلوا لها وطبّلوا لأشخاصها، ولكن كانت النتيجة أن معظم هذه الحكومات انتهت بفضائح فساد كبرى لا مجال لذكرها وحصرها الآن. والمفارقة المدهشة أن معظم الحكومات تبدأ بالتهليل لأصحابها وعدّ منجزاتهم الاقتصادية والسياسية والثقافية والعسكرية والصحية والخدمية وغيرها وغيرها، وعندما ينتهي دورهم ويُكشفون على حقيقتهم تكون الصدمة بأن القسم الأكبر منهم قد أساء إلى الدولة وساعد على سقوطها بجميع النواحي!

وبالطبع هذا ينسحب على مجلس الشعب، إذ شهدنا فساد عدد كبير من أعضائه وتحولهم إلى أصحاب رؤوس أموال وتجار كبار بكل معنى الكلمة، والسؤال الذي يطرحه كل عاقل: ما هو مصير من أثرى ومن تطاول على مقدرات الأمة ولقمة المواطن؟!

ولماذا لا يرى هذا المواطن من يمثله إلا أثناء الانتخابات، وعلى ذكر أعضاء مجلس الشعب فقد جمعتني المصادفة مع أحد أعضاء مجلس الشعب في تقديم واجب عزاء، وكان صديقنا النائب بدلاً من أن يسأل الحضور عن معاناتهم ويشرح لهم الواقع الكهربائي ومسألة الوقود والماء وغيرها، فوجئت بأنه فتح صفحته الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي عبر هاتفه النقال، وبدأ بالدردشة مع إحداهن إلى أن نهض من كان برفقته، وعندئذٍ غادر الجميع! فبالله عليكم هل من المنطقي وجود شخص كهذا ممثلاً للشعب فيما يسمى مجلس الشعب؟!

ولو تجولنا على مدى سنوات ما قبل الأزمة وبحثنا في الطريقة التي كانت تتم فيها التوصيفات والترقيات والتعيينات لمعظم المراكز في مفاصل الإدارة في الدولة، لعرفنا كم كان حجم البلاء القادم الذي ندفع ثمنه الآن.

واسمحوا لي في النهاية أن أسأل المعنيين عن كل هذا بما أملك من حب لوطني وتمنيات له بالسمو والرفعة: هل سنشهد إعادة تقييم لكل ما اعتدنا عليه والذي كان سبباً أساسياً فيما نمرّ به الآن ياترى؟! سؤال برسم هؤلاء علّنا نحصل على الجواب في قادمات الأيام.. وسامحونا!

 

العدد 1102 - 03/4/2024