أزمة النقل أيضاً.. حسبنا الله ونعم الوكيل!
حسين خليفة:
لا يوجد ما يغري بالحديث عن مشكلة يعيشها كل سوري عدا أصحاب السيارات والمتنفذين الذين يمتطون سيارات الحكومة والحكومة أيضاً، مشكلة تضيف إلى ذلّه اليومي ذلّاً، وتحول حياته إلى جحيم لا يطاق، لا يوجد ما يغري بالحديث عنها سوى أمل واهٍ بأنه ما زال هناك في مواقع المسؤولية والسلطة من يقرأ ويحس بآلام الناس، ويحاول التخفيف عنها إن لم يكن انتشالها من هوة اليأس وانعدام الثقة بالدولة.
حكومة أعمل عندها فلا تعطيني دخلاً يكفي ليومين، ولا تسأل نفسها كيف أؤمّن خبز عائلتي لبقية الشهر. حكومة لا تؤمِّن المواد الأساسية للحياة من خبز، ومواد تموينية وغاز ومازوت وبنزين، إلاّ مقنّنة وبكميات غير كافية، ولا يحصل عليها المواطن إلاّ بجرعة جديدة من الذلِّ والتعب، بينما تمتلئ رفوف المولات بالكافيار والشوكولاتة والكاجو والويسكي والشمبانيا وغيرها ممّا نجهل أسماءها من مستلزمات رفاهية الأباطرة الجدد.
حكومة أصبحت وسائل المواصلات فيها لا تجد وقوداً لتعمل سواء بين المحافظات أو ضمن المدن إلاّ بكميات محدودة لا تفي بالغرض وبشقِّ الأنفس، فتلجأ إلى السوق السوداء التي تؤمِّن كل ما يلزمهم من وقود لكن بأسعار مضاعفة، وهم بدورهم يأخذونها من جيب المواطن، فلا يعقل أن يخسروا طبعاً.
حكومة تمدّ يدها إلى جيب المواطن كلما فرغت خزائنها، وتترك الحيتان وتجّار الحرب يراكمون المزيد من الثروات في كل قرار تأخذه. أيّ مصداقية بقيت لها بين الناس!؟
لمن نوجِّه كلامنا إذا كان أصحاب القرار يعرفون الواقع جيداً، ويأخذون وضعية المزهرية متجاهلين أنّ للصبر حدوداً، وأنّ الشعب لا يمكن أن يتحمّل الجوع والقهر إلى الأبد وهو يرى اللصوص الكبار وأبناءهم يركبون أحدث السيارات، التي تكلّف موازنة الدولة ملايين الدولارات حتى تُستورد، فيما تغصّ هذه الدولة نفسها باستيراد مستلزمات الحياة الضرورية للفقراء وتتركهم نهباً للحاجة والذل؟َ!
* * *
ما زالت صور ترامواي دمشق في الخمسينيات من القرن الفائت تملأ وسائل التواصل الاجتماعي، وتحفل ذاكرة المدينة بمواصلات مؤمَّنة ومحترمة، لأنه كان على كراسي المسؤولية مسؤولين منتخبين يحترمون ناخبيهم ويعرفون أنّ ساعة الحساب لا تطول لمقصِّرٍ أو فاسد.
الآن على أبواب حافلات النقل الداخلي تجد الناس متعلقين بأطراف أصابعهم بعارضة ما على الباب أو على جدران الباص، ويُحشَرون كالفئران في ممرات السرافيس التي أصبحت هرمة فعلاً، إذ تجاوزت أعمارها الثلاثين عاماً من العمل المتواصل، ولم يكلِّف أحدٌ من مسؤولينا الأشاوس نفسه باختراع حلّ يخلصنا من هذا الحل الإسعافي (السرافيس)، مثل مشروع المترو الذي تحوّلت المقالات والدراسات عنه إلى جبل يضاهي قاسيون، ولم يُحرّك أحدٌ ساكناً حتى تاريخه.
أجور النقل تتزايد كل فترة بقفزات كبيرة مع ارتفاع أسعار المحروقات وقطع التبديل، بل مع انهيار قيمة الليرة أمام العملات الصعبة، لكن مع كل هذه الزيادات الكبيرة تبقى أزمة النقل داخل المدن وبينها أيضاص مشكلة مستعصية لا يكلّف أحدٌ خاطره بتخفيفها ريثما يأتي مسؤول لا ينحصر تفكيره بإرضاء المسؤول الأعلى الذي سلّمه الكرسي، بل يحاول إرضاء ضميره أولاً، والناخب الذي سرعان ما سيحاسبه ثانياً في بلد ديمقراطي يصل المسؤول فيه إلى موقع المسؤولية بقرار الناس لا بقرار حكومات الظلّ وأجهزة الحكومة العميقة والجهات المختصة.
المشكلة أنهم مهرة جداً في الكلام، ما إن تسمع أو تقرأ تصريح أحدهم في وسائل الإعلام حتى تقول ها قد جاء المنقذ المنتظر، لكن مهارتهم تقف عند هذا الحد، وينسون ما وعدوا به وقالوه على الملأ، ولا ينبري أحد في المجالس التي يفترض أنها مُنتَخَبَة، ويُفترض أنها تلاحق وتحاسب المسؤولين على برامجهم وخططهم، ولا حتى في معظم وسائل الإعلام التي يُفترض أنها سلطة رابعة وتتمتّع بحرية التعبير، لكن ما إن (يُخطئ) إعلامي في وضع يده على الجرح حتى تنهال عليه التُهم ويُجَّر إلى المحاكم، ويبقى غالبية الإعلاميين يفكّرون في أمانهم الشخصي وتبوّؤ مراتب أعلى في وسائل إعلام باتت مسخرة الناس.
لنتذكّر فقط ما صرّح به محافظ ريف دمشق السابق ومعه الوزراء المعنيون بإنشاء شبكة نقل بين مدينة دمشق وريفها بحافلات تعمل على الطاقة الشمسية، وتجهيز محطّات لشحن الباصات على الطرق الرئيسية، هل هناك من يتذكّر الحديث الذي أغدقوا علينا به مراراً.؟! هل هناك من يسألهم ماذا حدث للمشروع؟!
* * *
في غمار الفوضى المُستشرية في جميع القطاعات، والغلاء المنفلت، يصبح الحل الفردي هو ملاذ الكثيرين سواء من أصحاب السرافيس والباصات أو من السائقين أيضاً، فتُفرض أسعار أعلى حسب وضع الازدحام ووقت العمل، ويقوم كثيرون ببيع مخصّصات سياراتهم من المازوت بأسعار تصل إلى 4000 ليرة للتر بينما يشترونها من الدولة مُقنّنة طبعاً بـ500 ليرة، وبهذا يرتاح من عناء العمل، والمناكفات مع الركاب، وتنمّر شرطة المرور عليه، واهتلاك مركبته، ويربح من بيع المازوت أكثر ممّا يربحه من العمل ووجع القلب.
طبعاً لا يتجرأ على طلب سيارة أجرة إلاّ المُضطّر، فحجّة السائقين موجودة وحقيقية، لا تكفيهم مخصّصات البنزين الممنوحة لهم للعمل، فيضطرّون إلى شرائه من السوق السوداء أيضاً بثلاثة آلاف أو أربعة آلاف، وبهذا يصبح العدّاد منظراً بلا عمل، ومنظر المفاوضات الشّاقّة بين الناس المنتظرين والمضطّرين وبين سائقي التكسي على تحديد الأجرة قبل أن يصعدوا التكسي أصبح مألوفاً في شوارع المدن، وليس الملوم هنا السائق ولا الراكب، وإنما من أوصل البلد إلى هذه الحال من القلّة والنقص والخراب.
الأمر نفسه ينطبق على النقل بين المحافظات، فالبولمانات متوفّرة ولديها أوقات مُحدّدة للسفر فقط في الأيام العادية، مع أسعار كاوية نتيجة ارتفاع أسعار المحروقات وندرتها أيضاً، أمّا في العطل فالحصول على مقعد في بولمان يصبح حلماً.
السفريات العادية، أو ما اصطلح على تسميته بالـ(هوب هوب) فحدِّث ولا حرج، غارقة في الفوضى والفساد، مثل ما قلناه عن السرافيس حول بيع مخصّصات المازوت للمركبة وركنها أمام المنزل أصبح أكثر ربحاً للمالك والسائق من (الشنططة) على طرقات السفر، وإدارات الكراجات لا تتدخّل ولا تلزمهم بالعمل، وربما كانت لهم حصة في أرباح البيع فيغضّون النظر على جري العادة في سورية منذ أن استفحل الفساد، وتحول إلى حالة عامة وثقافة مجتمعية بفضل الشفافية والمحاسبة واختيار الأكفأ لمواقع المسؤولية.
أخيراً، كما كل من بقي في البلد من السوريين الذين لا مفرّ أمامهم من قبول الواقع المرّ والحلم بواقع أفضل ولو من باب الدعاء والتبرك بالمزارات والأولياء الصالحين، نقول، بعد أن فقدنا الأمل في الحلول والمفاوضات والشعارات والجمل الرنانة: حسبنا الله ونعم الوكيل!