أكبادنا التي لا تمشي على الأرض

حسين خليفة:

في سيرة المسنّين أتذكّر قول الشاعر حطّان بن المعلّى عن نظرة الآباء إلى الأبناء:

وإنما أولادنا بيننا                                       أكبادنا تمشي على الأرض

لو هبّت الريح على بعضهم                             لامتنعت عيني عن الغمض

هؤلاء هم آباؤنا وأمهاتنا، أعمامنا وعماتنا، أخوالنا وخالاتنا، إنهم أيضا أكبادنا التي لا تمشي على الأرض عجزاً وتعباً بعدما استهلكتهم سنوات العمر والتعب والقهر والركض خلف تأمين حياة كريمة لنا.

من مجتمع العائلة إلى مجتمع الفرد

في المجتمعات ما قبل الرأسمالية لم تكن هناك مشكلة تسمى التعامل مع المسنين، إذ تتكفّل العائلة بالمسن الذي لا يحتاج غالباً إلى كثير من الرعاية، لأنه أمضى حياته في الكد والعمل في الأرض أو الرعي، ويتناول ممّا تنتجه الأرض والمواشي التي يربيها بعيداً عن الأطعمة المعلبة والجاهزة التي تعيش عليها الأجيال الآن، ممّا أورثه بنية قوية ومناعة ضدّ الأمراض.

هذه المجتمعات الريفية ما زالت مستمرة في الحياة إلى جانب المجتمعات الرأسمالية الهشّة والتابعة في البلاد النامية، وهي المجتمعات التي تعاني ويعاني المجتمع معها من مشكلة الهرم المبكّر، الهرم عند بلوغ الستين مع التقاعد الذي تفرضه الدولة على موظفيها، والبعض يهرم قبل الستين، لأسباب كثيرة منها قلّة الحركة بسبب وجود السيارة والعمل المكتبي ونوعية الغذاء غير الطبيعي والمواد الحافظة وغيرها.

بينما كان أجدادنا وبعض آبائنا الذين استمروا بالعمل في الأرض لا يعرفون الهرم حتى ترتفع أرواحهم إلى السماء وهم يراودون الأرض عن نفسها، يفلحونها ويزرعونها ويسقونها ثم يجنون ثمرات تعبهم وعطائها سعداء فرحين. تظهر على وجوههم وأجسادهم علامات التقدم في السن، نعم، لكنهم كانوا قد اخذوا من التراب صبره وعناده أمام عاديات الزمن، ومن الجبال صلابتها، ومن الشجر تجدّد الحياة فيها.

ما فعلته الرأسماليات الهشّة والتابعة أنها (ريّفت) المدينة بإجبار الفلاح والبدوي على الهجرة إليها لتأمين قوت يومه، والسكن في العشوائيات التي أصبحت أكبر من المدينة ذاتها، ونقل هؤلاء معهم نمطهم الاجتماعي والحياتي وطباعهم وتقاليدهم، فتحوّلت المدن إلى أرياف شاسعة، فيما تحوّل الريف إلى مدن اصطناعية، كفلاحة تحاول تقليد نساء المدن بطبقات المكياج السميكة على بشرتها.

هذا التشوّه في البنية الاجتماعية طال كل الفئات والأعمار، فلم ننل رخاء مسني الرأسمالية الغربية، ومأسسة دور الرعاية بهم هناك، مثلما خسرنا العائلة التي تحترم وتجلّ مُسنّيها حتى آخر أيام حياتهم، طبعاً مع استثناءات تؤكّد القاعدة في الحالتين.

من هنا تبدو معاناة المسنين في مجتمعاتنا المتخلفة مسألة إنسانية مؤلمة وثقيلة الوطء على الضمير الإنساني.

فمع نشوء الرأسمالية التابعة الطفيلية التي أنتجتها أنظمة العسكر، وانتشار قيمها البعيدة عن قيم الرأسمالية الغربية التي حملت لواء الحرية وحق تقرير المصير وحقوق الإنسان مع الثورة الفرنسية، وإن شاب التطبيق كثير من الكذب والنفاق تجاه دول الأطراف، مع نشوئها بدأت التشوّهات تغزو جسد المجتمع، وأنتجت طبقات لا علاقة لها بالعمل والإنتاج، ودفعت طبقة الفلاحين والمزارعين إلى ترك الأرض والعمل في الأعمال الهامشية مثل التهريب والعمل على أطراف المدن والعيش فيما سُمّي مدن الصفيح أو العشوائيات.

 

دور رعاية.. ولكن!

رغم بعض القوانين التي سُنّت والتي تنص على تكريم المسنين وإنشاء دور لرعايتهم وقد بلغوا أرذل العمر، وصاروا بحاجة إلى من يأخذ بيدهم في مسكنهم ومأكلهم وحتى في قضاء حاجاتهم أحياناً، لكن الواقع يُظهر أن المُسنّ منسيّ من الدولة إن لم يقم أولاده برعايته أو إيداعه دار المسنين ودفع ما يترتّب على ذلك من تكاليف، في حال لم يتمكّنوا هم من القيام بواجب رعايته وخدمته، وهو أمر ما زال مستهجناً إلى حدٍّ كبير في مجتمعنا الذي ما زال يعيش على قيم العائلة والعشيرة وصلات القربى وصلة الرحم، وهي حتماً قيم إيجابية ننحني لها، لكن نمط العائلة المعاصرة الذي دخلنا فيه شئنا أم أبينا جعل هذه الروابط تضعف، وظروف العيش أيضاً أجبرت كل أفراد العائلة على العمل ليتمكّنوا من تغطية تكاليف المعيشة، فلم يبق أحد من القادرين على العمل في المنزل ليقوم بواجب رعاية المُسنّ ومساعدته، ممّا خلق حاجة ماسّة لإنشاء دور للمسنين وتأمين ظروف صحية لائقة بهم في هذه الدور، مع تهيئة كوادر بشرية تقوم بالإشراف على هذه الدور وتقديم جميع الخدمات للمُسنّ.

قبل الحرب لم تكن هناك دور كافية لاستيعاب المُسنيّن المحتاجين إلى رعاية والذين لا عائلات تساعدهم أو تقاعست عائلاتهم عن واجب المساعدة، بل كانت دور الرعاية محصورة بالميسورين الذين يستطيعون تحمّل تكاليف وضع كبيرهم في هذه الدور، بينما بقي الفقراء متمسكين بقيم الحفاظ على كرامة الكبير في بيته وبين أفراد أسرته حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا.

وتشير الإحصاءات إلى أن عدد المسنين في سورية تجاوز 1.7 مليون مُسنّ، أي بنسبة 7.2% من عدد السكان تقريباً، ومن المتوقع أن يصل العدد إلى 5.7 ملايين نسمة عام 2050، بنسبة 13% من إجمالي عدد السوريين.

فيما لم تقم الحكومة سوى بإنشاء دارين لرعاية المسنين (دار الكرامة بدمشق، ومبرّة الأوقاف في حلب) فيما تشرف على بقية دور الرعاية (عددها 17 داراً) جمعيات أهلية بإشراف وزارة الشؤون الاجتماعية طبعاً.

لكن خلال الحرب ومع تعرّض مدن وأحياء بكاملها للتدمير والتهجير، وفقدان كثير من العائلات لمنازلها في الأحياء الفقيرة خصوصاً وتهجيرهم من مدنهم وقراهم إلى مخيمات النزوح واللجوء داخل البلد وخارجه، وغياب الشباب أو تغييبهم أو هجرتهم إلى خارج البلد، أصبحت إمكانية خدمة المُسنّ شبه مستحيلة في ظروف النزوح والتهجير، وأصبحت الحاجة أكثر إلحاحاً للنظر في وضع هذه الفئة التي من واجبها علينا كأفراد وكمجتمع ألا نتركهم لمصيرهم ونؤمّن لهم عيشاً كريما لبقية سنوات عمرهم.

لكن في ظلّ واقع مأساوي لغالبية السوريين ولهاثهم خلف تأمين الحاجات الأساسية لهم من خبز وغاز ومحروقات ومواد تموينية، أصبح من الترف ربما الحديث عن إجراءات حكومية أو أهلية لتحسين وضع الدور الموجودة، وإنشاء دور جديدة، إذ أصبحنا كلنا تقريباً بحاجة إلى دور رعاية للأسف.

لكنّ معاناة المُسنيّن والعجزة تبقى وصمة عار على جبين المجتمع والإنسانية في سورية، ويبقى على الدولة رغم كل ما تمرّ به البلاد من ظروف قاسية، ألا تنسى كبارنا على أرصفة المدن وفي الحدائق يستجدون لقمة الخبز وينهشهم البرد، أن تلتفت إليهم بإنشاء المزيد من دور الرعاية، وإيجاد فرص عمل تناسب وضعهم للقادرين على ذلك، وأن تشجّع وتساعد المبادرات الأهلية التي تحاول إيجاد مسكن كريم وخدمة لائقة لهؤلاء الذين ربّونا وبنوا البلد ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.

العدد 1102 - 03/4/2024