محنة العلم ومسيرته المتعثرة في البلدان العربية

يونس صالح:

شهدت البلدان العربية بعد الحرب العالمية الثانية تحولات اجتماعية وسياسية وتغيرات كثيرة ومتلاحقة. فقد تحقق الاستقلال السياسي تدريجياً للبلدان العربية في المشرق أولاً ثم في المغرب، وحل محل حركات الاستقلال والتحرير الاهتمامُ بتنمية المجتمعات في البلدان العربية، وأصبح هذا هو التحدي القائم أمام القوى الحاكمة، وصاحبت هذا طفرةٌ في مجالات العلم والتكنولوجيا، فشهدنا تكاثراً سريعاً في الجامعات والمعاهد العليا، وزيادة مطردة في أعداد الشباب الموفد إلى الخارج لمزيد من المعرفة.. وظهرت مراكز ومجالس ووزارات ومؤسسات للبحث العلمي، وأغرقتنا منظمة اليونيسكو في غياهب تصورات نظرية لا تمت لواقعنا أو احتياجاتنا بصلة، وعاد العلم مرة أخرى حلية ومظهراً من مظاهر التقدم والمعاصرة، ولم يتبلور له دور واضح أو مفهوم محدد لدى صانع القرار.

ولسنا نعرف زعيماً أو قائداً أو مسؤولاً أو صانع قرار واحداً في البلدان العربية لم يمتدح في أكثر من مناسبة دور العلم في تقدم المجتمع، ولم يعلن إيمانه بهذا الدور، ولم يؤكد تدعيمه للعلم والعلماء، لكننا لا نعرف بالقدر نفسه كثيرين منهم كان لديهم حد أدنى من وضوح الرؤية حول حقيقة هذا الدرس، أو من الدراسة بالطبيعة الخاصة للعمل العلمي أو باستراتيجيات تسخيره لخدمة أهداف التنمية، وممن ثابروا ودأبوا في مساندة النشاطات العلمية الوليدة وحمايتها من طغيان موجات الجهالة التي كانت تنتشر بسرعة.

وبلادنا اليوم حافلة بأشلاء مراكز ومعاهد علمية كثيرة، نشأت وسط ضجيج الدعاية السياسية قصيرة النظر، وهي تعيش اليوم في (أعراف) العجز والقصور، فلا هي نمت لتحقيق شيء من الآمال التي كانت معقودة عليها، ولا هي قضت نحبها ووريت التراب لتصبح عبرة.. ووراء كل هذه السلسلة المفجعة من مظاهر القصور والفشل، يقف شبح استمرار البلدان العربية في الاعتماد الكامل في التنمية على مصادر المعارف الأجنبية، على الرغم من الفرص الذهبية التي أتاحتها الاستثمارات الخيالية في مشروعاتها، دون أن تكون هناك أية محاولة جدية لتخصيص قدر ضئيل من هذا الإنفاق لبناء القدرة الذاتية، كما فعل الغير.. ومع تراكم كل هذه المتناقضات ومع توالي ضياع الفرص، بدأ البعض يدرك أن ما تم اشتراءه بالأموال الوفيرة لم يكن هو العلم والتكنولوجيا اللذين تم السعي للحصول عليهما منذ أكثر من نصف قرن، وأن السبيل الذي تم سلوكه قد ترك مشكلة هي الاقتصاد المزدوج، يزداد الفقراء فقراً وعزلة، والأغنياء غنى وارتباطاً تابعاً للمجتمعات صاحبة العلم والتكنولوجيا يشكل فكرهم وهويتهم، ويستنزف أموالهم في تنشيط اقتصاداتها ويربط مصالحهم المادية وتوجهاتهم السياسية بمصالح وتوجهات هذه المجتمعات.. وهكذا اتسعت الهوة بين الريف والحضر، وبين بلد عربي وبلد عربي آخر ملاصق له.

ولكن هذا الإدراك لم يسفر بعد بأي حال من الأحوال عن برنامج عمل صالح للتطبيق، وهنا لا مفر من أن يتحمل رجال العلم والتكنولوجيا في البلدان العربية حكم الأجيال القادمة عليهم بقصورهم في بلورة مثل هذا البرنامج وبمسؤوليتهم عن شيء مما نحن فيه اليوم من الضياع.

ويوم يخرجون علينا بمثل هذا المخطط المتكامل المتناسق، ويوم يطرحونه في حلبة الكفاح السياسي لتتبناه القوى صاحبة المصلحة في الأخذ به، وتطالب الحكام بتنفيذه، وتصارعهم من أجل تحقيقه، يومئذٍ ستسقط الأقنعة الزائفة وتنكشف حقيقة الفئات المتسلطة صاحبة المصلحة في الركوع أمام أصحاب التكنولوجيا واستجداء رضاهم، ومن ثم الوقوف في وجه كل جهد حقيقي لبناء القدرات العلمية التكنولوجية.. يومئذٍ يصبح الكفاح الوطني من أجل البناء الداخلي هو السبيل لبناء مجتمع الغد الذي يحترم كرامة المواطن ويطلق العنان إلى آخر المدى لطاقاته الإبداعية المقهورة حتى يسترد ما سلب في الداخل والخارج.

العدد 1104 - 24/4/2024