ناقوس خطر قبل خط الزوال
حسين خليفة:
كانوا يهربون من الحرب وأخطارها، من قدرٍ أعمى يترصدهم في رصاصة قنّاص أو برميل متفجّر أو قذيفة طائشة أو اعتقال أو خطف، لكنهم الآن يهربون من الفقر والجوع اللذين يحاصراننا الآن هنا..
قوافل الشباب الذين فرّوا من الحرب خلال الأعوام الأولى وصل معظمهم إلى بلاد المهجر واستقروا نسبياً بإقامات مؤقتة، إلاّ من ابتلعته أمواج البحار التي فرّوا عبرها من هذا الموت العميم، فكان رحيلهم إلى جوف البحر وأصبحوا طعاماً للحيتان هم الذين هربوا من حيتان البرّ.
الشباب الذين لم يغادروا لأسباب مختلفة، بعضهم لعجز عن سداد تكاليف (الرحلة)، وبعضهم لبقية أمل ما زال محكوماً به بأن هذه البلاد ستنهض من جديد، ولن يطول المقام بغربان الحرب حتى يرحلوا وتحلّ حمائم السلام، لكنه كان حلماً وردياً جدّاً، كان أضغاث أحلام، فها هي ذي البلاد لم تنهِ حروبها بعد، أو لم ينهِ الآخرون حروبهم على أرضها، والمناطق التي استتبَّ الوضع فيها نسبياً صار غول الجوع يفتك بالناس وهو أشدُّ هولاً من غربان الحرب.
ماذا يفعل شاب أمام تكاليف حياة صارت عصيّة على الجميع؟
كيف سيؤسّس حياة جديدة مع حبيبة أو شريكة حياة ولا يمكنه شراء قطعة أثاث منزلي من دخل سنوات إن وجد عملاً، وحلم امتلاك منزل أصبح محالاً؟!
من الذي يحقّ له أن يحاسب الشاب (والشابة طبعاً) الذي كبر خلال سنوات الحرب على قرار الهجرة، وهو لم يعش طفولته إلا رعباً وقلقاً وحزناً على من رحلوا أو تشوّهوا جسدياً، فصاروا عبئاً على أسرهم وعلى البلد، أو تشوهوا روحياً فتحوّلوا إلى كائنات مفترسة مستعدة لفعل أي شيء في سبيل المال والمال فقط؟!
إنها الحرب المستمرة بطرق أكثر فظاعة وعنفاً من البارود، إنها حرب إنهاء الوجود لشعب يروي عنه التاريخ الذي لم نعد نصدِّق بأنه أول من كتب أبجدية وأول من أبحر وأول من زرع.
الشباب في سورية الآن، وحتى الكبار في السن، ينحصر تفكيرهم في أمرين: الهجرة أو الهجرة.
وكأن ما حصل من نزيف للشباب خلال سني الحرب قتلاً أو اعتقالاً أو تهجيراً لم يكفِ، فجاء حيتان ما بعد الحرب، أثرياؤها وشركاؤهم من رؤوس الفساد، ليطردوا، نعم يطردوا ما تبقى من شباب سورية إلى أي مكان.
قرأت منذ أيام لصديق طبيب جراح وأستاذ جامعي في كلية الطب بجامعة تشرين، ومثقف وطني، أنه أصبح في الصومال للعمل طبيباً بعد أن أحالوه إلى التقاعد لمجرّد بلوغه الستين (أساتذة الجامعة يمكن أن يكملوا عملهم حتى السبعين) لكنه من غير المرضيّ عنهم بسبب رؤيته الوطنية الجامعة ورفضه الاستئثار والتفرّد.
الآن يكتب صديقنا معلومات عن الصومال وينشر صوراً عن المدينة التي يعمل فيها تخلب الألباب.
الصومال التي ما زال الكثيرون يذكرون اسمها من باب التندّر تضع قدمها على عتبات الحضارة والتطور بعد حروب عمياء وضحايا كُثُر، وغزو أمريكي، وفصائل داعشية أحرقت ونهبت، ودكتاتوريات عسكرية جعلت البلد يباباً، والأطفال يسقطون قتلى من الجوع.
الصومال الآن تستقطب أطباءنا يا من تخبئون رؤوسكم في الرمال!
أقرأ تصريحاً للسيد رئيس مجلس الوزراء حول الوضع الاقتصادي يرى الأمر من زاويته هو، فيتساءل (هناك من يجمع الملايين ليرسل ابنه خارج البلاد، فمن أين له هذا؟)؟!
ليت سؤالك هذا وُجِّه، ولو لمرة، واحدة لكبار الفاسدين، سواء كانوا في مواقع المسؤولية الآن، أو غادروها ليستثمروا ما جنوه من وجودهم في المنصب، وأنت تعرفهم جيداً، والكل يعرفهم.
ليت سؤالك كان لأثرياء الحرب الذين يستفزون السوريين الجائعين بمظاهر البذخ والبطر والفساد كل ساعة.
لكنه يترك جبل الفساد والنهب والإثراء غير المشروع، ليحاسب مواطناً سُدَّت بوجهه السبل، فباع ما تبقّى لديه من سكن أو عقار أو سيارة ليُسفِّر ابنه ويُخرجه من هذه الحالة المستعصية لعلّه ينقذه أولاً ويساعده للبقاء على قيد الحياة ثانياً!
إنّ الناس كفرت بكل شيء، لأن الجوع كافر، فلا تبيعونا كلاماً وشعارات بعد الآن.
هذه القوافل من الشباب المهاجر إن استمرّت بهذه الوتيرة لن تقوم قائمة للبلد بعدهم، فمن يبني ويؤسّس ويبدع هم الشباب.
نحن نوشك أن نصبح بلداً هرماً ليس فيه إلاّ المتقاعدون والعاجزون.
والحل ليس بإجراءات المنع والزجر والتباهي بالقبض على مجموعة شبّان حاولوا مغادرة البلاد بطرق غير شرعية.
الحل ليس بكمّ أفواه الوطنيين والمخلصين والحريصين على البلد وأهلها، وترك المنافقين يطبّلون ويزمّرون لإنجازات لا وجود لها على أرض الواقع.
الحل هو البدء وبلا إبطاء في تنفيذ الحل السياسي للأزمة، الحل الذي يقوم على حوار سوري حر، يجمع كل مكوِّنات البلد، ويحترم جميع الآراء، ويضع صيغة لسورية الجديدة، لعلنا نلحق بالصومال على الأقل.