بلاد مبعثرة.. عائلات مشتّتة
حسين خليفة:
الحرب التي ما زالت رحاها تدور على الأرض السورية، وإن بنسب منخفضة عن بداياتها، خلقت أزمات تتوالد وتزيد مع استمرار الأزمة السورية دون حلّ.
وتكاد لا توجد عائلة سورية لم تتأثّر بنتائج الحرب بدرجات متفاوتة، من عائلات خسرت بعض أفرادها أو كلهم أحياناً، إلى أخرى خسرت منازلها أو ممتلكاتها.
لكن تجربة النزوح والهجرة تكاد تكون الأقسى والأكثر تأثيراً على المدى البعيد، لما تتركه من تأثيرات كبيرة على تماسك المجتمع واستمراره.
وتفيد آخر إحصاءات الأمم المتحدة بأعداد اللاجئين السوريين خلال سنوات الحرب العشرة حسب تقرير صدر في آذار 2021 بما يلي:
بلغ مجمل عدد اللاجئين السوريين 13 مليون سوري نزحوا منذ اشتعال الصراع، وهو ما يمثل حوالي 60 في المئة من عدد السكان قبل الحرب، وهي نسبة نزوح لم تشهدها دولة من قبل خلال العقود الأخيرة، بحسب مركز بيو للأبحاث، منهم 6.3 ملايين نزوح داخلي ضمن الأراضي السورية.
ويوجد 5.5 ملايين لاجئ في البلدان المجاورة لسورية (3.6 ملايين في تركيا، 865 ألفاً في لبنان، 664 الفاً في الأردن، 243 ألفاً في العراق) إضافة الى 131 ألفاً لاجئاً في مصر.
وهناك 6.7 ملايين لاجئ أو طالب لجوء في 130 دولة حول العالم، الأمر الذي جعل سورية في مقدمة الدول (المصدّرة) للاجئين، يتوزع هؤلاء بشكل رئيسي كما يلي:
أوربا:
يعيش فيها حوالي مليون سوري كلاجئين أو طالبي لجوء: ألمانيا (530 ألفاً يمثلون خامس أكبر نسبة لاجئين في العالم) والسويد (110 آلاف) والنمسا (50 ألفاً).
أمريكا الشمالية:
يوجد حوالي 100 ألف سوري في أمريكا الشمالية، يمثلون أقل من 1 في المئة من العدد الإجمالي للاجئين السوريين في العالم.
أعادت كندا توطين حوالي 52 ألف سوري.
أما في الولايات المتحدة فتمّت إعادة توطين حوالي 21 ألفاً، وهناك حوالي ثمانية آلاف يقيمون على أساس برنامج الحماية المؤقتة، الذي يمنح مهاجرين يواجهون حروباً أو كوراث في بلادهم حق الإقامة والعمل في الولايات المتحدة لمدة مُحدّدة.
وتضيف الإحصاءات المذكورة إنّ أكثر من 66 بالمئة من اللاجئين هم من النساء والأطفال، منهم 1.6 مليون طفل لاجئ دون سن العاشرة.
يعيش 1.8 مليون شخص في المخيمات والمستوطنات العشوائية على الأرض السورية التي تخضع لسيطرة المعارضة المسلحة.
وهناك الآن 13 مليون سوري بحاجة إلى المساعدة الإنسانية والحماية، و4 ملايين بحاجة ماسّة إلى هذه المساعدات.
كما يوجد 2.4 مليون طفل خارج المدرسة حالياً، وهو رقم مرعب فعلاً، و1.6 مليون معرّضون للتوقف عن الدراسة.
يتحمّل اللاجئون السوريون في لبنان وطأة الأزمة الاقتصادية والمالية العميقة في البلاد، إضافة إلى التمييز العام والمؤسسي الواسع.
هذه لمحة سريعة عن حالة التشتّت التي أصابت المجتمع السوري والعائلة السورية نتيجة الحرب الكارثية.
كثير من العائلات لم يبقَ منها في البلد سوى الكهول لصعوبة سفرهم في طرق التهريب الشاقة أو لرغبتهم في البقاء في البلد وصعوبة اندماجهم في المجتمعات الجديدة وخصوصاً المجتمعات الأوربية.
هذه الظاهرة المُقلقة والمحزنة أفرزت ظواهر عدّة منها طرق الزواج التي أصبح الإنترنت وسيلة رئيسية لتعارف الشباب والفتيات ولو كان عن طريق الأهل، إذ يتواصل طالب الزواج مع الفتاة بعد تفاهم العائلات، ويتم إتمام إجراءات الزواج عن طريق وكالات، ثم (تسفير) العروس بعد إتمام إجراءات لم الشمل التي تأخذ سنوات أحياناً. هذا الأمر جديد في مجتمعاتنا، لكنه تحول إلى ما يشبه الاعتياد، خصوصاً أنّ نسبة كبيرة من الشباب اللاجئين يعانون من عدم العثور على شريكة حياة في بلد اللجوء، وبعضهم لا يريد الزواج سوى من بنت البلد.
هذه الطريقة في اختيار شريكة الحياة تخلق الكثير من المشاكل لاحقاً، فترتفع نسب الطلاق بين الأزواج الحديثين هناك، والسبب طبعاً هو عدم المعرفة الجيدة بين الزوجين قبل الزواج، والاقتصار على التواصل عن طريق وسائل التواصل، وهي لا تعطي صورة حقيقية عن الآخر، إضافة إلى صدمة المجتمعات الجديدة بالنسبة لأبناء مجتمع شرقي مشبع بأعراف وعادات لا تنسجم مع الحياة الجديدة.
الكارثة الأكبر هي في النسب الهائلة من الأطفال الذين يُحرمون من حقهم في التعليم، ويدخلون أسواق العمل في بلاد اللجوء المجاورة وفي مخيمات الداخل لمساعدة عائلاتهم، وبالتالي فإننا ننتظر جيلاً أميّاً في غالبيته، ممّا يُعيدنا إلى زمن السفر برلك.
ويبقى تشتّت العائلة مع ما يعنيه من آلام نفسية وروحية ومادية لأفرادها، سواء الذين هاجروا أو الذين اضطروا إلى البقاء في البلد، هو العنوان الأكثر قتامة وبؤساً للعائلة، وأصبح الرابط الوحيد بين أفراد العائلة مكالمات الوتس آب ومكاتب الحوالات حيث يساعد الأبناء المهاجرون عائلاتهم بما تيسّر ممّا يوفرونه من دخولهم القليلة أصلاً هناك.
إنّ أي حلّ سياسي للأزمة السورية. وهو لا بدَّ آتٍ شاء من شاء وأبى من أبى. لا بدّ ستعترضه مشاكل وعوائق هائلة، مردّها إلى هذا الوضع الإنساني الشّاذ الذي خلقته الحرب، من ضمن عوائق أخرى كبيرة وكثيرة اقتصادية وسياسية واجتماعية.
لذلك لا بدّ أن يُلحظ هذا الجانب المأساوي والمهم في أي لجان حوار أو حلول لوضع سورية على طريق الخلاص من هذه الكارثة التي تعيشها منذ أكثر من عقد من الزمن، وعلى جميع الأطراف المعنية بالحل أن تضع في أولى أجنداتها مأساة التشتّت والضياع للعائلة السورية، إضافة إلى مشاكل إعادة الإعمار والمعتقلين والمخطوفين والمختفين.
نعلم أن صوت العقل ما زال خافتاً للأسف في إخراج البلد من حالة البعثرة والشتات والخراب، لكن الأمل يبقى قائماً في أنّ سورية ستنجب نُخباً سياسية وثقافية قادرة على استنباط الحلول العقلانية والعلمية، ولو على المدى الطويل للكارثة السورية.