الغرب والحرب

د. صياح فرحان عزام:

في ميدان الصراعات بين الدول والأمم في عالمنا المعاصر، باتت (الحرب) واللجوء إليها تحتل مكانة مركزية في هذه الصراعات، وهناك ظواهر أربع متداخلة ومكثفة في ميدان الصراعات.

أولى تلك الظواهر أن نطاق الحروب قد اتسع، وأن وتائرها اشتدت في المئتي عام الأخيرة أكثر من أي فترة سابقة في التاريخ، لدرجة أنه لم يخل عقد من القرنين الماضيين من حرب اندلعت هنا أو هناك، وأحياناً كانت الحرب تفرخ أخرى.

وثانيها أن حروب العالم المعاصر أشرس في الحدة، وأهول في الدمار، وأوسع في فناء من تطولهم من البشر، لأنها باتت محمولة على مكتشفات حديثة دخلت في تجهيز أدوات (من السلاح الناري إلى السلاح النووي والجرثومي)، فارتفع بذلك معدل القوة النارية والتدميرية عما كان عليه في تاريخ جميع الحروب السابقة.

ثالثها: أن اتساع نطاق الحروب في العالم تساوق مع اتساع مجال المصالح الاقتصادية والاستراتيجية للدول، وقد بات الحفاظ على هذه المصالح يتوقف على شن الحرب وعلى حيازة القدرات العسكرية الكفيلة بضمان المصالح.

وهكذا كلما أحرز التقدم في ميدان تكوين المصالح وتوسيعها زادت الحاجة إلى الأسلحة والأساطيل والحروب.

ورابعها: أن الحروب والحاجة إليها وإلى تعظيم الجيوش، أفضت إلى نتيجتين متلازمتين:

  • نشوء اقتصاد حربي، وتعزز مكانته ضمن المنظومة الاقتصادية الإجمالية،
  • رسوخ موقع النخب العسكرية والأمنية والاستخبارية وأجهزتها داخل الدولة، وصيرورة مواقفها وتقديراتها توجيهات رسمية ذات تأثير بالغ في صناعة القرار السياسي للدولة.

وفي الحقيقة إن حروب الغرب فاقت في أهوالها وخطوبها غيرها السابق من حروب، لأسباب متعددة منها الثروات المادية وصناعة الأسلحة الحديثة والتقنية المتقدمة والاقتصاد العسكري، وخاصة بعد أن اتسع الفارق في الموارد والقدرات بين الغرب ودول العالم الأخرى.

ثم إن الحرب في حالة الغرب لها عوامل وأسباب متداخلة ومتكاملة تسهم في توقيدها وتبريرها في الوقت نفسه، وهي على النحو التالي:

أولاً- الصراع على المصالح وقد بلغ ذروته في الطور الإمبريالي من التطور الرأسمالي والجنوح، للدفاع عنها، أو تحصيلها، إلى استخدام الجيش والقوة الحربية.

لقد كانت الحروب الاستعمارية لإخضاع بلدان الجنوب الحلقة الأولى في المسار الطويل لهذه الحروب، ثم انتقل الصراع على النفوذ والمصالح نقلة انعطافية، نتج عنها أضخم حربين عالميتين في التاريخ في النصف الأول من القرن العشرين، ثم استؤنفت الحروب الإمبريالية ضد فيتنام وكوبا بدعوى الخطر الشيوعي، وضد العراق بزعمهم امتلاكه أسلحة التدمير الشامل، وضد أفغانستان بدعوى تصفية القاعدة وحاضنته (حركة طالبان).. إلخ، وهي جميعها حروب على مصالح من مناطق نفوذ ومصادر طاقة، وساحات تأثير جيو- استراتيجية.

ثانياً- الأرباح الخرافية الناجمة عن الصناعات العسكرية والتي يستحيل استمرار وجودها إلا في حال استمرار إنتاج الأسلحة، وبالطبع فالطلب على الأسلحة لا يكون إلا بوجود حروب وصراعات، لهذا كله أقدم الغرب ولايزال على شن حروب بدعاوى (نظيفة) لتشغيل الاقتصاد الحرب وصناعاته العسكرية.

ثالثاً- وهو الأساس التحتي، تشبّع الوعي الجمعي الغربي ووعي النخب السياسية خاصة- بفكرة (القوة) التي لا تكف عن التحول مع الزمن إلى عقيدة راسخة موجّهة للتفكير وللسياسات والممارسات.

وإذا كانت القوة معطى تاريخياً يجلب الفتوحات الاقتصادية والعلمية للغرب، فمشكلتها أنها اقترنت بالنزوع إلى السيطرة والهيمنة على قاعدة وهمٍ بحقّ الغرب في حكم العالم، وفرض قوانينه ومعاييره على العالم، بزعم أنها وحدها الصالحة والناجعة والمرجعية دون سواها، ولذلك ما توزع الغرب يوماً عن استخدام القوة العمياء ضد كل من يرفض الانصياع لأوامره وإرادته، معيداً من جديد إنتاج تلك العلاقة الثنائية وغير الإنسانية في التاريخ، وهي علاقة السيد بالعبد، التي هي بالتعريف علاقة القوة بتجلياتها غير الأخلاقية.

 

 

العدد 1102 - 03/4/2024