الطقوس الدينية ومغزاها

عهد بيرقدار:

لفهم اختلاف المجتمعات الناتج عن اختلاف ثقافاتها، علينا أن نبحث مليّاً في جميع الأسباب والظروف التي تساهم في تكوين هذه الثقافات. وبما أن الدين يعتبر الوحدة الثقافة الأولى لأي مجتمع، فإنَّ دراسته بعيداً عن التحيزات الدينية والروحية المرتبطة به أمر في غاية الأهمية، وذلك لفهم تشعباته المتداخلة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها. لذلك ينبغي أن نعزله عن المقدس والخطوط الحمر التي يُفترض عدم تجاوزها، وأن نقوم بدراسته دراسة موضوعية لتحقيق الغاية المراد منها الفهم الواضح لتكوين هذه الثقافات المختلفة.

وكما يعلم معظمنا فإنَّ للثقافة أثرها المباشر على أجسادنا، كذلك الأمر يتجلي الدين في طقوس دينية جسدية وغيرها تختلف من ديانة إلى أخرى، لكن جميعها تتفق على غاية تحقيق التواصل مع الذات الإلهية وتوطيد علاقتنا الروحية بها وبالأديان. وعلى هذا لا يمكننا دراسة الدين بمعزل عن فهم الظواهر والطقوس الدينية التي ترتبط به، والمتمثلة في الممارسات البشرية اليومية، وإنشاء فهم واضح لهذه الظواهر وسبب وجودها.

تعتمد هذه المقالة على كتاب (تفسير الثقافات) للأنثروبولوجي الأمريكي (كليفورد غيرتز) الذي يعتبر من أشهر العلماء الذين درسوا الدين باعتباره ظاهرة رمزية متجسدة في الحياة اليومية، ذلك أنَّ غيرتز خصّص الكثير من وقته لفهم الرموز المختلفة في الحياة والبحث في تفسيرها، وبهذا يعد مؤسس المدرسة التأويلية الأنثروبولوجية التي تُعنى بدراسة الرموز وعلاقتها بالحياة الثقافية للإنسان.

يقدم غيرتز وجهة نظر خاصة لفهم الدين، ويقوم بإثبات الدور الرمزي الذي يمكن أن يلعبه أمام الفوضى والقلق الوجودي، بجعل العالم مستساغاً وقابلاً للتفسير والتبرير والتحمل. ويُعرف الدين بوصفه مجموعة من الرموز التي تعمل على تشكيل روابط قوية بين الناس عن طريق رسم تصورات ورؤى حول نظام الحياة وما بعدها، وإعطاء هذه التصورات نوعاً من المثالية والكمال اللذين لا يتحققان إلا عبر ممارسة هذه الرموز المتمثلة بالطقوس الدينية المتنوعة.

تأتي الأهمية البالغة للرمز من خلال قدرته الكبيرة على تخزين المعاني ومضاهاة الواقع، بإعطاء معنى معياري لواقع مجرد، وفي قدرته الإشارية سواء إلى شيء أو حدث أو علاقة مع احتفاظه باستقلاليته عن الشيء المشار إليه، مما يحفظ له قوته المتواصلة في نقل التصورات التي هي معانٍ مختلفة ومتطورة للرموز.

ولفهم جذور هذه الرموز الدينية علينا أن نفهمها على أنَّها نمط من المعاني المتجسدة التي نُقلت تاريخياً من جيل إلى آخر. ذلك أنَّ فهم الإنسان وكيانه المجتمعي سيكون جلياً وواضحاً أكثر عن طريق دراسة الظواهر والرموز المحيطة به، ومن أكثرها انتشاراً عبر العالم وفي المجتمعات قاطبة: الطقوس والرموز الدينية.

لتحقيق البعد الوجودي المتمثل في الديني، كان لابدَّ أن تعمل الرموز على ربط الاستعدادات النفسية للأفراد ودمجها في إطار تصورات كونية شاملة. وهذا أكثر ما تتميز به الأنظمة الرمزية، وهو قدرتها على تجاوز الخاص إلى ما هو كوني.

إذ لا يمكن لأي نظام روحي وديني أن يصف نفسه من الخارج إذا لم يستطيع الانغلاق على ذاته داخلياً. ولكن كيف يمكن أن نفهم ونرى الكون الداخلي للأشياء والكون الخارجي؟ إذ إنَّ الأشياء والأكوان يمكن معرفتها من الداخل القريب نسبياً، لكن الخارج اللامحدود للأكوان تحيط به قدرة الله اللامحدودة. وهنا تأتي قوة الإيمان، إذ إنَّه لا يمكن للكون أن يُعرف ذاته تماماً إلا عن طريق الخارج اللامحدود، أي عن طريق الله اللامحدود.

وبهذا يصبح الإنسان منفصلاً عن الله بالحد الأنطولوجي (الوجودي) للوجود. حيث لا يمكن اختراق هذا الحد دون حدوث مشاكل ومفارقات في الوعي. وهذه المفارقات هي التي لا تسمح بتجاوز الحد الفاصل بين الله والإنسان. وبهذا يصبح الفاصل بين الإنسان والله هو الوجود. ذلك أنَّ الداخلي محسوس ومفهوم. لكن الكون الخارجي اللامحدود واللاملموس ما زال يحمل مشاكل أنطولوجية، وبهذا يصبح العبور بين الموجود واللاموجود، المحدود واللامحدود أي الإنسان والله غير ممكن ومستحيلاً.

وهنا فقط تظهر أهمية الطقوس والرموز الدينية لخلق هذا التواصل بين المحدود واللامحدود. وهذا التواصل لا يمكن أن يتحقق إلا عن طريق الإيمان الصادق المترافق بتأدية الطقوس المناسبة. فالإيمان بكونه مشاعر متحركة يمكنه العبور بين هذه الحدود، وذلك عن طريق قبول الوجود في الجانب الآخر للكون الذي لا يسبر غوره.

وإذا أردنا أن نجرد الرموز الدينية فيمكننا أن نصفها على أنها المفاهيم المتوارثة التي يتم التعبير عنها بطريقة رمزية، ولها أهمية كبيرة في تواصل الناس وتطوير معرفتهم عن الحياة وتنظيم نشاطاتهم الاجتماعية. ذلك أنَّ الإنسان يعتبر كائناً طقوسياً، ويحبذ أن يكون هنالك طقس لكل نشاط يقوم به في الحياة. فحياتنا مليئة بالطقوس المختلفة والمتنوعة ابتداءً من فنجان القهوة الصباحي، وصولاً إلى الأعراس والجنازات. لكن لأنَّ الدين هو السمة العامة لأغلب المجتمعات، نرى هيمنة للطقوس الدينية على حياتنا اليومية، وذلك بغية تنظيم الحياة والنشاطات الاجتماعية بطريقة أقرب إلى التعاليم الروحية الدينية، ولمحاكاة رغبة الإنسان في أن يعيش طقوساً جماعية أو فردية تُعطي قيمة ومعنى للحياة والأحداث في نظره.

إننا نفهم ونتقبل العالم من حولنا عن طريق الانسجام بين المفاهيم الرمزية (الطقوس) وتصوراتها في تفسير أحداث الحياة المختلفة. فعلى سبيل المثال لو دخلنا في مراسيم معينة ولم نكن نعرف القواعد الشعائرية المتبعة فيها، فستفقد هذه المراسيم معناها بالنسبة لنا.

وبهذا فإن الدين بوجوده ضمن المجتمعات وطقوسه الرمزية نظمَ الفوضى الوجودية عند الأفراد، فدون الرموز التي تخص فلسفتنا ونظرتنا إلى الكون والأحداث اليومية ستصبح الحياة كتلة فوضوية من الميولات والعواطف غير المحددة، ذلك أنَّ الإنسان قادر على أن يتكيف بطريقة ما مع أي شيء يمكن لخياله أن يتأقلم معه، لكنه يستصعب التعامل مع الفوضى الوجودية المتمثلة في أحداثٍ مشوشة مفتقرة إلى التفسير، وتهدد قدرته على التحمل والتحليل وتحديد بوصلة التوجه الأخلاقي لديه.

إنَّ دور الدين والطقوس الدينية الرمزية هو وضع التجربة الإنسانية العادية في سياق دائم من القلق الماورائي لأجل رفع الشكوك الغامضة والواقعة في العقل. ذلك أنَّ الدين لم يُخلق لتجنب المعاناة البشرية، بل هو طريقة وأسلوب في المعاناة أي كيفية التعايش معها والقدرة على تحملها.

في الختام لابدّ لي من التأكيد على أنَّه من الشروط المهمة في تأدية الطقوس الدينية الإيمان المطلق بها، لذلك تسعى الأديان لجعلها ممارسة مجتمعية يتعلمها الفرد عبر ثقافته منذ الصغر لكي يتآلف معها ويعتاد وجودها وممارستها. لذلك من الطبيعي جداً أن نجد طقوساً دينية مختلفة عبر العالم نسبةً لاختلاف الانتماءات الدينية، ومن الطبيعي أيضاً أن نستهجن الممارسات والطقوس التي لم نعتد عليها منذ الصغر في حين أنها أمر مفروغ منه لمن تشرّبها عبر ثقافته. ذلك أنَّ التنوع الديني عبر العالم أمر في غاية التعقيد، وكذلك الأمر تنوع الطقوس الدينية المرتبطة به. لهذا من الجميل أن يعي جميع من ينتمون إلى دين ما أهمية ممارسة طقوسهم الدينية في إطار الممارسة المجتمعية المؤمنة بها وضمن ظروف تَقبُّل المجتمع العام لها، شريطة ألا تتعارض الطقوس الدينية مع الأفكار والاعتقادات الأخرى الموجودة في الحياة وألا تصبح سمة سياسية لمجتمع ما.

فالتنوع الديني غِنى إن نظرنا إليه من الناحية الثقافية، لكن ما إن يتحول الدين إلى ممارسة اقتصادية وسياسية فستصبح هذه الطقوس الدينية الروحية سمة مجتمعية قسرية على جميع الأفراد، وستفقد قيمتها المعنوية وستؤدي بالأفراد إلى رفضها والنهوض ضدها. وهذا ما نشهده في الصراعات الدينية الشبابية الحالية.

إذاً لا يمكن فرض حالة روحية ودينية معينة على الأفراد ما لم تكن متشربة فعلاً بصدق وتقبل خلال مراحل تنشئتهم. والعالم اليوم أوسع بكثير مما كان عليه سابقاً والسمة الثقافية له تتداخل مع بعضها عن طريق التكنولوجيا والعولمة المتزايدين. وهذا ما ينبغي أن تتجنبه جميع الأديان، وذلك برفع العبء الثقافي عن كاهل حامليها وأن يبقى الدخول في طقوس معينة أمراً خيارياً وترحيبياً لا قسرياً وترهيبياً.

 

 

المراجع

Clifford، G. (1993). Religion as a Cultural System. In G. Clifford، The interpretation of cultures (pp. 87-125). uk: Fontana Press.

Handelman، D. ( 2008). Returning to Cosmology—Thoughts on the Positioning of Belief. Social Analysis، 17.

 

العدد 1102 - 03/4/2024