أين أنت يا ماركس؟

عبد الرزاق دحنون:

يحدث هذا كلّ ثانية في شوارع مدن العالم: فتيات وفتيان بالجينز، جينز بأشكال وألوان متنوعة فيه القصير والطويل، الضيق والواسع، المقطع والمرقوع، الرثُّ والخَلق، ما هذا الجينز الأزرق الفاتح الذي يملأ الدنيا ويشغل الناس؟

الجينز أحد أكثر الملابس شعبية وشيوعاً على كوكب الأرض، وأكثرها إثارة للاهتمام على مرِّ الزمن، إذ يخلق هذا النوع من الملابس ارتباطاً عاطفياً مع مرتديه. نعم، فما إن تبدأ بارتداء الجينز حتى يظهر أثره في تصرفاتك اليومية، تميل إلى الثقة بقدراتك والانطلاق في حقول الحياة الفسيحة.

نعم، يا سادتي، ها هم أولاء عمال من بلاد الشام يساهمون في صناعة الجينز من هذا الخام، هنا في مدينة إزمير على شاطئ بحر إيجة، يعملون من الثامنة صباحاً حتى الثامنة مساءً بقوت يومهم. سوريون من شمال بلاد الشام، من كل الملل والنحل، فينا الكردي، والعربي، والشركسي، والتركماني، والآشوري، والكلداني، والسرياني، والأرمني، وأتساءل: من يعمل اثنتي عشرةَ ساعة في اليوم لتأمين لقمة عياله؟ والأكثر شناعة وفظاعة ورعباً وردية العمل الليلي من الثامنة مساءً حتى الثامنة صباحاً. نحن في أواخر العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين وما يزال رأس المال نهماً جشعاً لا يشبع، يُطلُّ علينا كلّ صباح بوجهه القبيح.

يخطُر في بالي في ضجَّة ليل مرخية سدوله في فضاء معمل صناعة الجينز الذي صار أليفاً، بعماله ومديري أقسامه وعاملاته الظريفات المُدخنات التعبات اللابسات الجينز، كتاب (رأس المال)، أتذكر مؤلفه هذا الفيلسوف المشهور الذي أطلق هذه الحركة التي انتظم فيها ملايين الجياع في شتى القارات، وأدت إلى تحسين جذري في معيشة الكادحين على نطاق كوكب الأرض، وهذا ما سعى إليه من تأليف كتابه.

أسمع صوت رفيقي (شيخموس) في وردية الليل الثقيلة، المملّة، المُضجرة، يهتف من قلب موجوع: (بس يا جينز!) مستعيراً عنوان أول فلم عن عمال غوص اللؤلؤ ومعاناتهم اليومية في مياه الخليج العربي باسم (بس يا بحر)، وكُلُّنا في الهواء سواء.

أين أنت يا ماركس؟ هل كان بنطال الجينز سيرضيك لو عشت في أيامنا العجاف هذه؟ لقد صار بنطال الجينز أحد أشهر ألبسة الطبقة العاملة التي سعيت لتحريرها من رتق عبودية رأس المال. وها نحن: (شيخموس، جنكيز، ميخائيل، خورشيد، سُليمان، سُلطانة، آدم، يوسف، موسى، عيسى، أحمد، عبد الرزاق) وعشرات الأسماء السورية الأخرى نلبس الجينز ونعمل في صناعته، وننظر في صدور بعضنا البعض فنجد صورتك مطبوعة في قمصاننا بعد مئتي سنة من ميلادك.

وها نحن أولاء ندور مع آلات كحت الجينز، يحتاج الجينز إلى مكحتة – وحياتنا تحتاج إلى مكحتة هي الأخرى – والمكحتة لمن لا يعرف هي التي تُعطي لباس الجينز هذا الملمس الطَّري وهذا اللون الفريد الذي لا يظهر دون الكحت. غسالات عملاقة يتسع حوضها (ستانلس ستيل) لأكثر من مئة بنطال ومئتين وخمسين كيلو من الحصى الصناعيَّة، الحصاة الواحدة يُماثل حجمها حصى بيتون (كونكريت) صبّ الأسطح. هذه الحصى مع الماء والمساحيق تعمل على تلطيف خشونة قماش الجينز الجافي. وهناك أقسام أخرى يمر بها الجينز: البخ، الغسيل، السنفرة، الفرز، التجفيف، التنعيم، الكوي، وأشياء أخرى، حتى يستوي قطعة لباس معتبرة تسرّ الناظرين.

نحن عمال من شمال بلاد الشام، حيث كل شيء مرتفع، الروابي، والنهود، والجباه، على حد تعبير صديقي الشاعر السوري (صقر عليشي) في واحدة من أجمل قصائده في ديوان (قصائد مشرفة على السهل) تتأمل وجوهنا، فتجد في عيوننا حزناً لا يكفي قرن من البكاء لمحو آثاره، وهنا أتذكر قصيدة الشاعر بركات لطيف التي افتتح بها ديوانه الثاني (أوراق الليمون) الصادر عن وزارة الثقافة بداية ثمانينيات القرن العشرين حيث يقول:

الشعر ثقيل الظلِّ

عندما نكتبه بين الآلات

وفي البيت تُحطِّم أوزانه

طلبات الأطفال

والكلمات ترفض احتواء الأحزان

فهل يكفي يوم من عام

لنفرغ فيه قرناً من البكاء؟!

هذا الحزن يظهر جلياً في نظرات عيوننا التائهة الكليلة من تعب أيام العمل الطويلة، في هذا المدى المفتوح على شبابيك الوطن البعيد، تحول حزننا إلى هوية. فجاء الشاعر الجميل (شيركو بيكه سه) ليقيس أحزاننا فقال:

جاء التاريخ

وقاس قامته بقامة أحزانكم،

كانت أحزانكم أطول!

أما من علاج لهذا الأسى الإنساني المقيم يا كارل ماركس؟

العدد 1102 - 03/4/2024